الإسلام السياسي: نعي سابق للأوان

مصريات يتظاهرن تأييداً للرئيس المعزول محمد مرسي - (أرشيفية)
مصريات يتظاهرن تأييداً للرئيس المعزول محمد مرسي - (أرشيفية)

فواز جرجس –* (فورين بوليسي)

ترجمة:علاء الدين أبو زينة
بعد إطاحة الجيش المصري برئاسة محمد مرسي التي يقودها الإسلاميون، كان المعلقون سريعين إلى الإعلان عن نهاية عصر الإسلاميين. لكن هذه الاستنتاجات المتسرعة، لا تضع في اعتبارها مجموعة الأسئلة الأكثر عمقاً، مثل: هل نشهد الآن بداية النهاية للأحزاب القائمة على أساس ديني، أم أن هذا هو فشل الإسلاميين في الحكم بفعالية وشمولية؟ ما مقدار الضرر الذي ألحقته أول تجربة للإخوان المسلمين في السلطة بالحركة الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة؟ ماذا تعلّمنا عن تصرُّف الإسلاميين وممارستهم أثناء وجودهم في السلطة؟ هل يقوض إسقاط أول رئيس (إسلامي) منتخب ديمقراطياً في تاريخ مصر الحديث عملية التحول الديمقراطي؟اضافة اعلان
كبداية، تمكن إسلاميو التيار الرئيس في شكل جماعة الإخوان المسلمين البقاء على مدى عقود من الاضطهاد والسجن والنفي على يد الأنظمة الاستبدادية التي يقودها الجيش. وسوف يتمكنون على الأغلب من تحمل خبرة الانقلاب الأخير الذي أقصى مرسي عن السلطة. ورغم الجهود المتضافرة والمنسقة في العقود الستة الأخيرة، والتي بذلها الحكام العلمانيون الأقوياء؛ مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، لإضعاف وعزل خصومهم المتدينين، فقد ساعدت شبكات الإسلاميين المتماسكة وعصبيتهم لجماعتهم على تقوية صمودهم في وجه الهجمة الوحشية التي شنتها عليهم السلطات العلمانية، واستطاعوا تنمية منظمتهم.
في المقابلات التي أجريتها مع إسلاميين من مختلف المراتب على مدى السنوات العشرين الماضية في مصر وأماكن أخرى، أصبح من الواضح تماماً بالنسبة لي أن الناشطين الدينيين يتكئون على إيمان قوي بالنصر الإلهي للحركة، وأنهم على استعداد لتحمل التضحية والمشقة والخسارة لتحقيق هذه الغاية المنشودة. وكانت عقود من الاضطهاد الذي دفع الإسلاميين إلى العمل تحت الأرض قد تركت ندوباً عميقة في نفسية الإسلاميين ومخيلاتهم. ونتيجة لذلك، فإنهم غالباً ما ينظرون إلى المجتمع الأوسع على أنه معاد في جوهره لقضيتهم. وسوف تعزز إطاحة الجيش المصري بمرسي هذه العقلية؛ عقلية الحصار، وشعور الضحية والتعرض للظلم في أوساط الإخوان المسلمين وأتباعهم.
إذا كنا لنتخذ التاريخ دليلاً مرشداً، فإن القادة الإسلاميين، على المديين القصير والمتوسط، سوف يعطون الأولوية لوحدة المنظمة وتماسكها على حساب إجراء تقييم نقدي لأدائهم في الحكومة واستخلاص الدروس المهمة من ذلك. سوف يدفنون رؤوسهم في الرمال ويتهمون العالم بالتآمر عليهم. وقد شرع الإخوان المسلمون أصلاً بتحشيد الآلاف من الأتباع، وهي مهمة سهّلها اعتقاد قويّ راسخ بأن الإسلاميين الآن بصدد الدفاع عن الشرعية الدستورية ضد "انقلاب فاشي" قام به الجيش. وباعتبارها واحدة من أكثر الحركات الاجتماعية والسياسية تنظيماً في مصر والمنطقة على حد سواء، تستطيع جماعة الإخوان المسلمين أن تعتمد على قاعدة قوتها، والتي تمثل بين 20 % و30 % من مجموع الناخبين، لتظل قوة لا يستهان بها ويحسب لها الحساب، سواء في صناديق الاقتراع أو في الشارع.
ورغم أن الإسلاميين سيظلون لاعبين رئيسيين في البلدان الأكثر تأثراً بالانتفاضات الشعبية العربية واسعة النطاق والشرق الأوسط بشكل عام، فقد تعرضت علامتهم التجارية للعطب مع ذلك. وكما عبر عن الحالة نائب المرشد الأعلى السابق للإخوان المسلمين (الثاني في القيادة) محمد حبيب، فإن جماعة الإخوان لم تخسر الرئاسة فحسب، وإنما خسرت أيضاً قضيتها الأخلاقية؛ زعمها بأنها تقف فوق الخلافات السياسية وأنها تعرف ما يلزم لحل مشاكل البلد الاقتصادية والمؤسسية. وقد كشفت تجربة حكم الإسلاميين التي دامت عاماً كاملاً عن عجز مفاهيمي، وفقر في برامج السياسة، ونزعة استبدادية تذكر بنظرائهم العلمانيين. لقد فشل الإسلام السياسي على الصعيدين، النظري والعملي، على حد سواء. وفي نظر شريحة حاسمة من الطبقتين الدنيا والوسطى، والتي كان الإسلاميون قد تمكنوا من احتوائها بعد إسقاط الرئيس حسني مبارك، فقد تم اختبار مرسي والإخوان، وتبين أنهم معوِزون. لقد فشلوا في تقديم النفع العام المحلي المطلوب.
بعد أكثر من سنة منذ كسبوا السلطة، كشف سوء إدارة الإسلاميين للاقتصاد عدم صحة زعمهم الشهير بأنهم مديرون مهرة، وإداريون وتجار، وأنهم أفضل تأهيلاً لتقديم الخدمات الاجتماعية والوظائف من سابقيهم العلمانيين السلطويين. وقد تبين أنهم بنفس عدم الكفاءة، والافتقار إلى الأفكار الأصيلة والمهارات الإدارية والقيادية، بالطريقة نفسها التي كان عليها الذين حلوا محلهم.
بعيداً عن تحسين الاقتصاد، عمل نموذج الإسلاميين المشوّش في الحكم فعلياً على التسبب بأزمة هيكلية وتسبب بالمزيد من المعاناة والمشقة للفقراء والطبقة الوسطى المتضائلة. وفي الذكرى السنوية الأولى لرئاسة مرسي، ملأ الشوارع ملايين المحتجين -بعضهم ممن كانوا قد صوتوا لمرسي- مطالبين باستقالته. ولم يكن قد تسبب في نفور المعارضة ذات التوجهات الليبرالية فحسب، وإنما أثار أيضاً غضب ملايين المصريين الآخرين بسبب سوء إدارته الاقتصادية. وقد ارتكب الإخوان المسلمون والإسلاميون الآخرون خطأ كارثياً بعدم تطوير ذخيرة من الأفكار عن الحكم، والاقتصادي السياسي بالتحديد. وفي العقد الماضي، عندما كنت أنا (وغيري) نضغط على الإسلاميين بشأن برامجهم السياسية-الاقتصادية، كانوا يردون بقولهم إن ذلك كان سؤالاً مفخخاً يهدف إلى تعريضهم للنقد العام؛ وأنهم سوف يفصحون عن برامجهم بمجرد أن يُسمح لهم بالمشاركة في العملية السياسية. وقد تبين أن الحركة الإسلامية تعاني من ندرة في الأفكار الأصيلة، لتكون جسماً هائلاً بعقل صغير.
يذهب السخط الجماهيري من مرسي إلى ما وراء مجرد الأداء الاقتصادي البائس، ويتركز على طرقه الاستبدادية وجهده المنهجي لترسيخ حكم الإسلاميين. لم يقم الإسلاميون بإحداث التحول في العقلية من جماعة معارضة إلى حزب حاكم. ورغم أنهم كسبوا أغلبية قوية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فإنهم تصرفوا كما لو أن كل العالم مُحرَّض ضدهم، وهي عقلية دفعتهم إلى التجاوز والإفراط، وبالتالي الخطأ المخيف في الحسابات.
بدلاً من الوفاء بوعوده، مثل بناء حكومة ذات قاعدة عريضة وشاملة، وتحقيق النهضة، قطع مرسي أشواطاً طويلة وبذل جهداً كبيراً في اتجاه احتكار السلطة ووضع الإخوان المسلمين في مؤسسات الدولة. وهناك اعتقاد واسع الانتشار بين المصريين من كل مشارب الحياة بأن مرسي حاول "أخونة مصر"، وأخضع الرئاسة لجماعة الإخوان، وهو خطأ قاتل بالنسبة لبلد فخور يسمي مصر "أم الدنيا".
لا أحد ينكر أن مرسي، الموظف المطواع والخيار الآمن لجماعة الإخوان، مسؤول بشكل كبير عن كارثة الإسلاميين. كان مرسي أسوأ عدو لنفسه، والذي صمّ أذنين وأغمض عينيه عن العاصفة التي كانت تتجمع من حوله. كان يتقن فن صناعة الأعداء والأخطاء الفادحة، وحول ملايين المصريين الذين كانوا قد صوتوا له إلى أعداء مريرين. كان الرجل الخطأ لقيادة مصر، أكثر الدول العربية سكاناً، في هذه الانعطافة الثورية الحرجة.
لقد ورثت إدارة مرسي التي يقودها الإسلاميون في الحقيقة بلداً كان مستقطباً سياسياً ومفلساً ماليّاً. ومنذ البداية، واجه مرسي مقاومة شديدة لرئاسته من مؤسسات الدولة، بما فيها الشرطة وقوات الأمن، والمصالح المتخندقة للحرس القديم. وبالمثل، لم تسمح المعارضة ذات الاتجاه الليبرالي لمرسي أبداً بفترة شهر عسل. وقد انطوى العلمانيون والليبراليون على عدم ثقة عميق بالإسلاميين منذ البداية ونظروا إليهم باعتبارهم تهديداً وجودياً لهوية مصر العلمانية، وهو ما دفعهم إلى دعوة الجيش للإطاحة برئيس منتخب ديمقراطياً ثم إلى احتضان الجيش لاحقاً -في تصرف غير ديمقراطي. وما يزال خط الصدع الإسلامي-القومي الذي ظهر في أواسط الخمسينيات موجوداً، وما تزال الحروب الثقافية مستعرة. وقد جرى استثمار هذا الانقسام الآن بإيحاءات قائمة على أسس ثقافية وحضارية. وفي مقال له في صحيفة "الحياة"، كتب أدونيس، الشاعر العلماني البارز والمنتقد العنيف للإسلاميين، أن الصراع بين الإسلاميين والقوميين ذوي الميول العلمانية هو صراع ثقافي وإنسانوي-حضاري أكثر من كونه صراعاً سياسياً أو أيديولوجياً؛ إنه مرتبط عضوياً بالصراع على مستقبل الهوية العربية، على المستقبل العربي.
نظراً لجملة المتناقضات، كان لا بد لمرسي أن يخيّب التوقعات وأن يفشل في نهاية المطاف. فقد كبرت مشاكل مصر تحت قيادته؛ وساءت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وتعمقت الانقسامات السياسية.
بغض النظر عن الانتقادات الموجهة لمرسي، كان هناك شيء فريد يتعلق باختبار الإسلاميين لقوتهم المكتشفة حديثاً، والوقوع في مصيدة الطموح السياسي الأعمى. ولا يتعلق السؤال بما إذا كان الإسلاميون هم ليبراليون أو ديمقراطيون مولودون مجدداً (إنهم ليسوا أيا من هؤلاء)، حتى ولو أنهم يصورون أنفسهم الآن على أنهم أبطال الشرعية الدستورية. إن نظرتهم العالمية وتنشئتهم الاجتماعية تضمن أن يترأسوا ديمقراطيات محافظة وغير ديمقراطية على الأرجح.
ومع ذلك، فإن الإسلاميين، بمن فيهم المفرطون في التشدد، أكدوا التزاما بمأسسة الديمقراطية والقبول بقواعدها ومعاييرها. وهذه أخبار جيدة، لأن الليبرالية لا تسبق الديمقراطية -وإنما العكس تماماً. فعندما يتم تجسيد السياسات والممارسات الديمقراطية، ثم إنجاز الحوار حول حقوق الأفراد والأقليات، فإنه سيمكن تحديد دور المقدس في السياسة من خلال حرية التعبير وتغيُّر الأغلبيات في البرلمان.
لا شك أن إطاحة الجيش بمرسي تقوض التجرية المصرية الهشة لأن هناك خطراً حقيقياً من أن يتعرض الإسلاميون مرة أخرى للقمع والاضطهاد والاستبعاد من الفضاء السياسي. وقد أصبحت المؤشرات حاضرة والكتابة ظاهرة فعلاً على الجدار مع اعتقال مرسي واستهداف العشرات من قادة الإخوان. ولا يبشر هذا بخير للتحول الديمقراطي، لأنها لن تكون هناك أي مأسسة للديمقراطية من دون الإخوان المسلمين، أكبر وأقدم حركة إسلامية سائدة قائمة على أساس ديني في الشرق الأوسط جميعاً.
سوف تتجاوز تداعيات وأصداء ما حدث أخيراً مصر إلى الدول العربية والشرق أوسطية المجاورة الأخرى. وفي جميع أنحاء المنطقة، يشعر الإسلاميون الآن بالقلق من أن تكون وجهة المد الشعبي قد انقلبت ضدهم. وبعد الانتفاضات العربية واسعة النطاق من العام 2010 إلى 2012، كان هناك فهم واسع الانتشار بين العرب بأن الإسلاميين كانوا حصاناً رابحاً، لا يمكن وقفه. لكن تلك الحتمية انقلبت رأساً على عقب بعد أن تظاهر ملايين المصريين ضد إدارة مرسي التي يقودها الإسلاميون، وبعد الإطاحة به لاحقاً. إن "الإخوان" هم مادة سامة يمكن أن تلوث الإسلام السياسي وتتسبب في نضوبه.
بوصفها المنظمة الإسلامية المركزية التي تأسست في العام 1928، يرجح أن يتسبب إخفاق جماعة الإخوان المسلمين في أول تجربة لها في السلطة بتعكير موقف وصورة فروعها وشركائها الأيديولوجيين الأصغر في كل من فلسطين، والأردن، وسورية، وحتى في تونس والمغرب. وتعاني حماس الآن بالفعل من تبعات العاصفة العنيفة في القاهرة، ويشعر الإخوان المسلمون في الأردن بالحرارة والضغوط السياسية هناك في الوطن. كما أن الإسلاميين السوريين مشوشون ويخشون أن تكون وجهة المد قد تحولت ضدهم. ومن جهة أخرى، شعرت المعارضة ذات الميل الليبرالي في تونس بالتنشيط، وهي تخطط للتحول إلى الجانب الهجومي ضد حركة النهضة. وحتى حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل وحركة "غولِن" في تركيا، يراقبان التطورات المتكشفة في مصر المجاورة بقلق وانزعاج بدورهما. ومع ذلك، سيكون من الحمق كتابة النعي للحركة الإسلامية الآن.

*أستاذ سياسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد. وكان يجري بحثاً ميدانياً عن الإسلاميين منذ الثمانينيات وكتب بكثافة عن الأوجه العديدة للإسلام السياسي. كتابه القادم هو "الشرق الأوسط الجديد: الاحتجاج والثورة في العالم العربي".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Premature Obituaries for Political Islam