"الإصلاحية" السعودية: هل تاهت في الطريق!

ثمة خلط شديد بين الجماعات والحركات السلفية المنتشرة هنا أو هناك، يقود هذا الخلط إلى حالة من الاختزال لهذه الحركات وتنميطها في صورة الجمود الفكري والظاهرية في الإدراك والفهم والتشدد الفقهي والديني.

اضافة اعلان

هذه الصورة النمطية وإن كانت تنطبق – إلى درجة كبيرة- على الحركة السلفية العامة التي سادت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وشهدت ذروة انتشارها مع الطفرة النفطية في الثمانينيات، إلاّ أنّها تمثل مدرسة واحدة داخل الخريطة السلفية، التي تنتمي إليها ألوان ومقاربات متعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتتباين أشد التباين في رؤاها الفكرية والسياسية وحتى في أصول المعرفة الدينية لديها، هذا الاختلاف الذي يصل إلى أن يبقى وصف السلفية هو القاسم المشترك الهش الوحيد بينها، وربما يعكس ذلك في الوقت نفسه صراعاً على شرعية تمثيل المذهبية السلفية بين هذه المقاربات المختلفة.

السعودية احتضنت الدعوة السلفية المعاصرة منذ التحالف التاريخي والعقد السياسي الذي قام بين آل سعود والوهابيين (أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب) وإن كانت هنالك صور جديدة مغايرة للوهابية في العصر الحديث، كنموذج السلفية الإصلاحية لمحمد رشيد رضا (صاحب مجلة المنار المعروفة) والسلفية الوطنية لابن باديس (جمعية العلماء المسلمين في الجزائر) وغيرهم، ممن كانوا أقرب إلى تبني مقاربة عقلانية- تجديدية أكثر تقدماً في خطابها واجتهادها.

وقي حين ورثت مدرسة الاخوان "إصلاحية" رشيد رضا ثم تخلت عنها مع الاستقلال وظهور مدرسة سيد قطب ونشوء الصراع السياسي الداخلي في الدول القطرية العربية، فإنّ المقاربة السلفية السائدة والمهيمنة منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى بداية التسعينيات تمثّلت بـ"الوهابية"، واتخذت طابعاً معيناً تتمثل أهم ملامحه في الصراع مع المقاربات الصوفية والأشعرية والتأكيد على عقيدة التوحيد (الخالية مما اعتبرته السلفية بدعا خطيرة كالطواف حول القبور والاستغاثة بالأموات..الخ) وحصر المصادر الرئيسة في المعرفة الدينية بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة (مع التأكيد على المكانة الأساسية للسنة ووضعها في مرتبة موازية للنص القرآني)، وامتازت الوهابية بالاقتراب من "الحنبلية الفقهية" والموقف النقدي الحاد من أشكال الحداثة المختلفة في الأدب والسياسة والقانون والمعرفة الإنسانية، بينما لم تأخذ الوهابية الموقف النقدي ذاته من مظاهر الحداثة الاجتماعية الاستهلاكية التي غزت المجتمع الخليجي بعامة والسعودي بخاصة.

على الصعيد السياسي ورثت الوهابية مدرسة "الطاعة والوحدة" في التراث الإسلامي؛ بالتأكيد على عدم الاشتغال بالسياسة وطاعة ولي الأمر، ورفض أشكال الحداثة السياسية المختلفة (الدستور، البرلمان، فصل السلطات..) وتمسكت بالمفاهيم التراثية وبمبادئ تجعل من الحكم أقرب إلى "الثيوقراطي"، ما يصل إلى تحريم المشاركة السياسية والتعددية الحزبية والغاء حق المعارضة ومنع الحريات العامة (كحق الاجتماع والتجمع والتعبير عن الرأي..الخ).

محاولات متعددة داخل المدرسة السلفية جرت لاختراق المقاربة الوهابية إلاّ أنّها كانت محدودة التأثير وشكّلت مقدمات لعودة المقاربة الإصلاحية في بداية التسعينيات، والتي جاءت من خلال خطاب فكري وسياسي جديد بالكلية على السياق الاجتماعي والسياسي السعودي، مدعوماً بحركة شبابية وبشرائح اجتماعية واسعة. وكأنّ المياه الراكدة تحركت فجأة فخرجت هذه الحركة بلون ونكهة سلفية جديدة مختلفة.

البروز الأول للسلفية الإصلاحية كان مع حرب الخليج عام 1991 من خلال خطاب نقدي غير اعتيادي - في السعودية- ضد دخول القوات الأميركية إلى الخليج، ترافق ذلك مع ملامح معارضة سلمية للسياسة الداخلية والخارجية السعودية، وإن كانت هذه المعارضة في البداية تجمع بين مطالبتها بالإصلاح السياسي من جهة وبين التشدد الديني- الاجتماعي (ضد مظاهر الحداثة الاجتماعية) من جهة أخرى!، أبرز رموز الخطاب الإصلاحي- السلفي كانوا من جيل علماء الشريعة الشباب كسفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وعائض القرني وغيرهم.

لم تدم الفترة "الذهبية" للحركة الإصلاحية طويلاً، إذ أدّت الانتقادات الحادة التي وجهتها هذه الحركة للسلطة إلى اعتقال القيادات ومحاصرة أتباع الحركة والتضييق عليهم، وقد لعبت المؤسسة السلفية التقليدية (هيئة كبار العلماء) دوراً كبيراً في نزع المشروعية الدينية عن الوجه الجديد للإصلاحية السلفية.

أدت الاعتقالات والحملة السياسية والدينية على السلفية الإصلاحية وغياب القيادات في السجون إلى حالة أقرب للذوبان والاختفاء في النصف الثاني من التسعينيات، وقد شهدت تلك السنوات بروزاً لمقاربة سلفية أخرى "السلفية الجهادية" تعتمد خطاباً سياسياً ودينياً متشدداً، انتشرت بسرعة قياسية في أنحاء مختلفة من العالم، بعد تزاوجها مع التيار الجهادي وبالتحديد المصري، في استثمار ممتاز للظروف السياسية الحرجة، كانت حصيلة ذلك صعود "القاعدة" كشبكة عالمية ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبداية المواجهة العالمية بين الجهاديين والولايات المتحدة فيما يسمى بـ" الحرب على الإرهاب".

خرج شيخا السلفية الإصلاحية (سلمان العودة وسفر الحوالي) من السجن في بداية الألفية الجديدة، قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في مرحلة سياسية مختلفة بالكلية عن السابقة، وقد بدت درجةٌ أكبر من النضج الفكري والسياسي على خطابهما، وملامح تحولٌ في قراءة التحديات والأوليّات.

أعلن الإصلاحيون رفضهم لأحداث 11 أيلول، واعتبروا أنّها غير شرعية، كما وقفوا ضد هجرة الشباب السعودي إلى ساحات القتال في أفغانستان والعراق، وقدّموا مقاربات فكرية جديدة، ومتقدمة ليس فقط على المدرسة السلفية بل على الإحيائية الإسلامية بأسرها، وتبدّى ذلك من خلال الرسالة التاريخية "على أي أساس نتعايش؟" التي ردّوا فيها على رسالة المثقفين الأميركيين "على أي أساس نقاتل؟". وقد فاجأت رسالة الإصلاحيين السعوديين، وما فيها من رؤية فكرية حضارية تدعو إلى مفاهيم إنسانية وأخلاقية عالمية، الأوساط السياسية الأميركية قبل النخب والقوى السياسية العربية.

وفي حين أدّت الرؤية الإصلاحية الجديدة إلى تقارب مع السلطة وفتح باب الحوار معها، بالتزامن مع بوادر انفتاح سياسي وتفهم رسمي لضرورة الإصلاح، مع اشتداد الحملة الأميركية على السعودية، إلاّ أنّ هذه الرؤية كانت بداية صراع فكري وسياسي بين الإصلاحيين والجهاديين في السعودية.

خسر الإصلاحيون في البداية جزءاً كبيراً من نفوذهم الاجتماعي مع التحول الكبير في خطابهم، وقد اقتربت شريحة كبيرة من الشباب الإسلامي السعودي من "الجهاديين"، تحت وطأة الحملة الإعلامية الكبيرة على السعودية والظروف السياسية القاهرة، إلاّ أنّ الإصلاحيين بدأوا يستعيدون زمام المبادرة والنفوذ الشعبي والسياسي مع العمليات العدمية والمواجهات الدامية بين الجهاديين ورجال الأمن في مناطق مختلفة من السعودية، ما أعاد الاعتبار إلى الرؤية العقلانية الواقعية التي تحلّى بها الإصلاحيون.

كان من المفترض أن تؤدي بوادر الانفتاح السياسي وفرصة الحركة الجديدة أن يطوّر الإصلاحيون خطابهم ومؤسساتهم لتحقيق قفزات فكرية وحركية جديدة تساعد أكثر على بلورة المدرسة الإصلاحية السعودية وبناء خطابها من جديد. إلاّ أنّ الحال بدا مختلفاً تماماً! فقد تسمّرت الإصلاحية السعودية عند جهود فردية ومقاربات بسيطة وتقزّمت بمقالات ومواقع على الانترنت وبرامج تلفزيونية، ولم تتقدّم أية خطوة إلى الأمام، ويبدو أنّها قد فقدت البوصلة فلم تعد تعرف ما هي الخطوة القادمة في التطور الفكري والسياسي أو أنها أصبحت بحاجة إلى دماء جديدة أكثر قدرة على القيادة وعلى رسم خارطة الطريق ومواجهة التحديات الجديدة.

بدأت الإصلاحية بالتراجع والانشطار بين أفراد انتقلوا إلى ليبرالية بعيداً عن المدرسة الإصلاحية وبين أفراد علقوا بنصف الطريق، وتبدو الإصلاحية اليوم بعيدة عن الاتساق والعمل الجماعي المتكامل، وهو ما يفرض أوّلية مهمة تتمثل بضرورة المراجعة وقراءة المسار وتشكيل فريق عمل جماعي يجدد الخطاب الإصلاحي الذي تراجع كثيراً في الفترة الأخيرة.

[email protected]