الإصلاح الإداري في غياب المؤسسية

يشهد الأردن منذ أكثر من عقد من الزمان، جهوداً حثيثة في مجال "الإصلاح الإداري" للمؤسسات والهيئات الحكومية. وقد آتت هذه الجهود ثماراً كثيرة على صعيد تعديل تشريعات وأنظمة تلك المؤسسات، وعلى صعيد مهامها وعلاقتها بالمواطن، حتى بات المرء يلمس سلاسة غير معهودة من معظم مؤسسات القطاع العام، لدى مراجعته لها في معاملة أو طلب خدمة.

اضافة اعلان

وسط هذه النجاحات النسبية، التي ما تزال في أول الطريق بكل الأحوال، قياساً إلى الطموحات الإصلاحية الكبيرة، فإن ثمة بُعداً غائباً في إدارة وتنفيذ خطط الإصلاح داخل المؤسسات، لا يلتفت له ولا ينشغل به إلا أصحاب الشأن المباشر، وهو كيفية المفاضلة بين موظفي المؤسسة في عملية الترقية وتوزيع المهام الإدارية والتنفيذية، من جهة، وكيفية تطبيق أسس اختيار وتعيين الموظفين الجدد، حين يتعلق بالأمر بالتعيين والاستخدام خارج قوائم ديوان الخدمة المدنية.

أهمية هذا البعد الغائب، تكمن في أن توجهات الإصلاح الإداري هذه، عادة ما تقوم على منح صلاحيات واسعة للإدارات الوسطى في المؤسسات الحكومية، وبخاصة في مجال ترفيع الموظفين وتوزيع مهام العمل، بل والتصرف بالموارد المالية، ما يعني أن الإفادة من الإصلاحات الشكلية، عملياً، يلزمها كثير من النزاهة والعدالة لدى تلك الطبقة الإدارية الوسطى، كي تستعمل صلاحياتها الواسعة لخدمة مؤسساتها أولاً وأخيراً.

أهم ما يمكن قوله هنا، أن خطط الإصلاح الإداري التي عادة ما تعمد إلى محاكاة الأنظمة الإدارية في الدول المتقدمة، إنما تغفل عن البيئة الثقافية التي ستُطبق فيها، فلا تدرك أن نجاح تلك الأنظمة الإدارية المتطورة، في الدول المتقدمة، قائم على توافر قيم الاحتكام الطوعي للقانون في مجتمعاتها، لا الاحتكام الاكراهي أو الشكلي، وقبل ذلك توافر "المؤسسية" الحقيقية في مؤسساتها، ما يعني أن نجاح تلك الأنظمة الإدارية سببه وجود البيئة الملائمة للنجاح، وليس بنية تلك الأنظمة الإدارية بذاتها.

مجتمعاتنا القائمة على العصبيات، لا تتوافر على ثقافة القانون في سلوكها، ولا على المؤسسية في عملها، من الناحية الجوهرية، حتى وإن بدت كذلك شكلاً. وبالطبع فإن مؤسسات القطاع العام ليست مفصولة أو مختلفة عن هذه البيئة، بل هي بنْتها وجزء منها، بما في ذلك موظفوها. قد تختلف الإدارات العليا في تلك المؤسسات، وبخاصة في ظل القيادات الإدارية الجديدة، غير البيروقراطية، التي باتت تتولى المناصب العليا في السنوات الأخيرة. لكن "الإدارات الوسطى" التي تتولى في ظل الإصلاحات الإدارية صلاحيات واسعة، كما قلنا، ليست كذلك أبداً، بل هي من تلك البيئة التي لا تعترف بالقانون والمؤسسية، مثل عامة الموظفين. فكيف، يا تُرى، ستدير العمل وتوزع مهامه؟ هل بناءً على التمايز في الكفاءة كما تقتضي ثقافة القانون والمؤسسية؟ أم على أساس العلاقات والمحسوبية!

بالطبع: على أساس المحسوبيات! وهذا يعني أن عمليات الإصلاح الإداري، التي عادة ما تترافق مع احتفالات بهيجة و"طنطنات" دعائية وإعلامية لها أول وليس لها آخر، إنما تنقلب نقمة على موظفي مؤسسات القطاع العام، لأنها تجعلهم، على الأغلب، رهناً لأمزجة تلك الطبقة الإدارية الوسطى ومحسوبياتها، بعد أن كانت شؤونهم مرهونة فقط بالقرارات الإدارية العليا، التي عادة ما تكون أقل محسوبية وأكثر مؤسسية.

لا يمكن تحقيق الإصلاح الإداري الحقيقي، من دون تحقيق الإصلاح الثقافي أولاً. ففي ظل ثقافة اللاقانون واللامؤسسية، لا يكون الإصلاح إلا شكلياً ودعائياً. لا تتنبه خطط الإصلاح إلى أن المشكلة ليست في البُنية الإدارية للمؤسسات، وليست في هوية الشخص المتربع على رأس الإدارة، بل هي مشكلة ضاربة في ثقافة المجتمع وسلوكه.

وهكذا، فالإصلاح النافع لا يتحقق في مؤسسات القطاع العام، بل في وعي الناس، وفي ماهية القيم التي تتشكل عندهم منذ الصغر. الإصلاح العميق والحقيقي يستلزم جهداً يتواصل عشرات السنين، ليطال ثقافة المجتمع كله وسلوكه وأفكاره وقيمه، وبخاصة أجياله الجديدة: إنه يحتاج برنامجاً وطنياً إنهاضياً، لا عملية تعديل إداري تُنجز في أقل من ستة شهور!

[email protected]