الإصلاح: من العناوين إلى المؤشرات الإجرائية!

الجميع في العالم العربي يطالبون بالإصلاح. لكن ما يؤدي إلى هذه "الحقيقة الثابتة"، بحيث لا يخرج عن هذه المطالبة حتى المستفيدون من الأوضاع القائمة، هو أن "الإصلاح" ذاته لا يلبث أن يصبح محل جدل وخلاف بمجرد تجاوز العنوان؛ إذ يكون الاصطدام بمجموعة مفاهيم غامضة أو حمالة أوجه، تؤدي إلى كشف الانقسام والتباعد بين كل الإصلاحيين؛ الحقيقيين والمزعومين، وفقاً لحجج وذرائع لا تنتهي، تتنوع بين الوطنية والقومية والدينية وسواها.اضافة اعلان
فمثلاً، بفضل تاريخ طويل من تشويه الخصوم طبعاً، وبدرجة مماثلة تماماً نتيجة سوء ممارسة وتعبير مؤيدين، صار مصطلح "العلمانية" الذي حمل أوروبا إلى عصر التنوير والنهضة وحقوق الإنسان وبالتالي سيادة العالم، مرادفاً في عالمنا العربي للإلحاد والانحلال الأخلاقي، كما تصفية المتدينين، وتالياً كل معارض، بحسب ما تُثبت تجربة الأنظمة العربية الموصوفة "علمانية" عموماً.
الأمر ذاته ينطبق على مفهوم "الليبرالية". وإذا كان هذا المفهوم يكاد يتطابق -انطباعاً على الأقل- في العالم العربي، مع المعنى المزعوم للعلمانية، على الصعيد السياسي والثقافي الديني، فإنه مفهوم يمتلك أيضاً، جانباً "متوحشاً" على الصعيد الاقتصادي، غالباً ما يلتقي عليه المتصارعون بشأن العلمانية! وذلك عبر التركيز على نماذج محددة أفضت وتفضي إلى التخلي عن الفقراء، وصولاً إلى التبعية الاقتصادية الكاملة للخارج. وذلك رغماً عن وجود نماذج عديدة جداً من الليبرالية السياسية التي لا تعادي الدين أبداً، كما يعيش المواطنون في ظل بعدها الاقتصادي رفاهاً يعد الأكثر تقدماً في تاريخ البشرية الحديث، ومثالها الأشهر الدول الاسكندنافية.
الحال ذاتها تنطبق على رؤية فئات واسعة لمفهوم "الدولة الإسلامية"، بحكم ممارسات "داعش" التي فاقت كل تصور في وحشيتها. بل وقبل ذلك بزمن طويل، دولة جعفر النميري الإسلامية في السودان؛ إذ كان ركنها الوحيد هو إقامة الحدود لا غير.
بعد ذلك، قد تبدو إحدى النتائج الإيجابية لزمن "الربيع العربي"، هو التقاء الأطراف المتباينة أو المتصارعة بشأن الإصلاح والتغيير عربياً، على مفهوم "الدولة المدنية". لكن ما هو، حقاً، تعريف "الدولة المدنية"؟ وفق ما تؤكد ممارسات تلك الأطراف، حتى الآن على الأقل، فإن الإجابة لا بد وأن تعيدنا إلى المربع الأول؛ ولكأن هؤلاء اتفقوا على "العنوان" فقط لإخفاء أجنداتهم الحقيقية، والتي يبدو أنه ما يزال من غير الممكن التقاؤها ضمن مشروع إصلاحي وطني جامع وشامل، يتم التنافس تحت سقفه.
رغم كل ما سبق، فإن بمقدور الإصلاحيين الحقيقيين الخروج من هذه المعضلة، بتنحية العناوين الكبرى، ولو كمرحلة أولى، والتركيز في لغة الخطاب الموجهة للشعوب على يسمى بلغة البحث العلمي "المؤشرات الإجرائية" للإصلاح الفعلي؛ أي تلك القابلة للقياس، بغض النظر عن كل المسميات الكبرى مهما كانت براقة؛ وهي احترام حقوق الإنسان لكل المواطنين، وضمنها حرية الرأي والتعبير للجميع، وتكافؤ الفرص، ومحاربة الفساد... إلخ. وعلينا تذكر أن أغلب الدول الاستبدادية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي، حملت عبارة "ديمقراطية" في مسمياتها، لكنها في الواقع كانت نقيضها تماماً؛ ليس على المستوى السياسي فحسب، بل أيضاً وفق المعايير المزعومة من أنظمتها آنذاك، وهي "الديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية".
والحقيقة أن الشعوب العربية، كما أظهر "الربيع العربي"، أثبتت وعياً متقدماً بسنوات ضوئية على نخبها. إذ خرجت هذه الشعوب أساساً لأجل الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية؛ ولتسمي الدولة نفسها ما شاءت بعد ذلك، وليكون الرئيس من أي دين ومذهب وطائفة. فلم يظهر الصراع الطائفي والمذهبي إلا بقرار أنصار الوضع القائم على الاستبداد والفساد.