الإطفائيون

إذا كان صحيحا أنّ عزل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي قد أنقذ، إلى حد ما، الإخوان المسلمين من تحمّلهم وحدهم الفشل في حكم مصر، فإن ما هو صحيح أيضا أنّ سوء إدارة "الإخوان" وممارساتهم السياسية الإقصائية خلال ما سمّي بسنة "حكم المرشد"، قد أنقذت "الدولة العميقة" في مصر من الانفراط المفترض الذي أرادته الجماهير المصرية التي خرجت في ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011.اضافة اعلان
الأزمة التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين اليوم تكاد تكون الأقسى من نوعها في تاريخ "الجماعة". وإذا لم يراجع "الإخوان" أفكارهم وسياساتهم وأسلوبهم السياسي، فإن محاولات تحجيمهم ستستمر، وستجمع مزيدا من الأنصار و"الراغبين" والمستفيدين، داخليا وخارجيا، من هذا التحجيم.
هذا الاصطفاف ضد "الإخوان" يجمع ثوارا ومعارضين لـ"الدولة العميقة" في مصر. لكنّ "عقلية التمكين" التي مارسها "الإخوان" منذ صعود محمد مرسي إلى سدة الحكم، جعلت هؤلاء الخصوم يبدون في مركب واحد، مع أن الواقع غير ذلك. ولن يتمايز مَن في هذا المركب إلا بإظهار "الإخوان" الكثير من المرونة والتكيّف والنضج السياسي، وهي التي من شأنها فرز أبناء ثورة "25 يناير" عن "الفلول" وأنصار "الدولة العميقة"، من بيروقراطيين وموظفين في أجهزة الأمن والجيش والقضاء والإعلام وكثير من المؤسسات العامة، ممن تجمعهم الاستفادة من الفساد والاستبداد.
فشل "الإخوان" في الحكم، وأسلوبهم في إدارة أكبر دولة عربية، أعادا بقوة إنتاج "الدولة العميقة" التي تتوحد اليوم مع المعارضين من أبناء ثورة "25 يناير" المصرية على التعبير عن غيظهم الشديد من "الإخوان"؛ من خلال مقابلة عناد "الإخوان" وتعنتهم وقصر نظرهم السياسي، بالعمل على تحويلهم من مستوى "الجماعة المحظورة" كما كانت تسمى في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلى الجماعة المتهمة بممارسة "الإرهاب" والعنف في عهد ما بعد مرسي.
نحن أمام إنقاذين مع غياب شبه كامل للحلول المقنعة والعادلة. فالحريق مندلع، ولا نكاد نتبيّن إن كان ثمة إطفائيون أم لا. وهؤلاء الإطفائيون لا بد من أن يتشكّلوا من نخب سياسية وطنية مصرية، تؤمن بالحل الديمقراطي، وتعارض على حد سواء حكم العسكر وحكم المرشد، وتعتبر الإقصاء السياسي واحتكار السلطة وشيطنة الخصوم طريقا مختصرة للانتحار السياسي، وإعادة إنتاج الأزمات وتعميق الانقسامات. لعل هذا اليوم يُظهر أحد أبرز جوانب القصور فيما سميّ ثورات "الربيع العربي"؛ وهو الشح المجتمعي في توليد وإنتاج نخب وطنية ذات عمق شعبي وحضور اجتماعي، يمكن لها توفير الكثير من المعاناة على مجتمعاتها، عبر اختزال زمن معاناة الانتقال، وإشاعة وعي عام يستهدف خلق توافقات وطنية ونبذ وعي المعادلات الصفرية ونفي الذات عبر إقصاء الآخر والمختلف والخصم.
اليوم، يبدو "الربيع العربي" بحاجة إلى طريق ثالث يتجاوز حكم المرشد وحكم العسكر. واتّكال "الإخوان" في مصر على مؤسساتهم الاجتماعية والمالية "العميقة" في حفظ وجودهم السياسي وتواصلهم الشعبي وامتدادهم التنظيمي، غير كاف، بل يعمّق ويؤخر أكثر فأكثر تشكيل كتلة وطنية إطفائية ديمقراطية. كما أنّ تسامح أبناء ثورة "25 يناير" من معارضي "الإخوان" مع "الدولة العميقة" و"الفلول"، يضيّق فرص تشكيل تلك الكتلة الديمقراطية الإطفائية.
هذا يفرض على "الإخوان" إعادة تعريف أنفسهم، وتظهير صورة جديدة لهم كحزب سياسي يقدّم مصلحة الوطن وأبنائه على مصلحة التنظيم وأعضائه. كما يفرض على معارضي "الإخوان" تأكيدهم مشروعهم الديمقراطي، من خلال تمييز معارضتهم لـ"الإخوان" عن معارضة "الدولة العميقة" لـ"الإخوان"؛ فهذه طريق إجبارية، على ما يبدو، لاكتساب إقناع وصدقية هم بحاجة إليهما، وتوافرهما من شأنه التسريع في تخليق تلك الكتلة الديمقراطية التي يمكنها أن تمنح "الربيع العربي" قبلة البقاء على قيد الحياة، وتنظيف سمعة المنطقة الموسومة بأنها تستعصي على الديمقراطية!

[email protected]