الإعلام والحرية.. و"مسرح الفرجة"

في العالم العربي، يبدو سؤال الحرية هو الأكثر تداولا حين طرح موضوع عمل الإعلام للنقاش. هذا الأمر لا يبدو أنه يأتي من فراغ، فثمة قوانين كثيرة "تصطاد" ما يمكن تسميتهم "المتهورين" الذين لا يراعونها. في بلاد أخرى لا حاجة لمثل تلك القوانين، إذ تكفي رصاصة واحدة لإنهاء الخلاف حول سقف الإعلام. آخرون "يختفون" عن المشهد الإعلامي، ويغيب ذكرهم تدريجيا، حتى لا نعود نسأل أين ذهبوا. بينما أنظمة أخرى تشهر سلاح "التجويع" في وجه "المتهورين"، فيتعرضون للبطالة والفقر، وعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية. باختصار شديد، هذا هو وضع الحرية في عالمنا العربي المزدهر بالتناقضات والتجاذبات السياسية والحزبية والطائفية والإقليمية وتعدد الهويات والولاءات والمرجعيات، وتشكلات الدولة العميقة التي تمنع التغيير، وتحكم طبقات الفساد في أكثر من مستوى في الدول، والتي تحاول الدفاع عن نفسها وعن مصالحها ومكتسباتها، وبأي طريقة ممكنة. هذه هي مستويات الحرية التي يعمل الإعلامي العربي تحت تأثيراتها، والتي تفرض عليه أن يختار طريقة عمله، بين المواجهة مع النظم السابقة واختيار طريقة لانتهائه؛ موتا، أو اختفاء قسريا، أو تجويعا، وبين أن يعمل تحت السقف المتواطئ على وجوده، وأن يضع لنفسه محددات لا يتجاوزها مهما حدث. هذا ما يسمى الرقابة الذاتية، والتي بات يفرضها الإعلامي العربي على نفسه وما يكتبه أو يقوله، حتى قبل أن تفرض عليه مؤسسته سياساتها في هذا الإطار، فهو يمارس الحد الأدنى من الرقابة والتوعية والتثقيف وإثارة القضايا التي تهم المجتمع، وغالبا ما يذهب إلى قضايا هامشية تهم فئة أو مجتمعا محددا، بينما نشاهد القضايا الجوهرية التي تهم بلدا كاملا، مثلا، عصية على أن يتم وضعها تحت مجهر النقاش. حتى أمور مهمة مثل قضايا الفساد الكبيرة أو الجرائم الاقتصادية والتجاوزات الخطيرة لموظفي القطاع العام، غير مرشحة هي الأخرى للظهور في الإعلام ما لم تفرج السلطة عنها، وتجيز تداولها، أو تسربها، لأغراض خاصة، فيفرح الإعلام بالفتات الذي يرمى له، من دون أن يضع في حساباته أنه، وحتى في هذا السياق، يسير مع التيار، وينفذ أجندة مرسومة له بعناية شديدة! في ظل وضع كهذا، فقد الإعلام المؤسسي؛ الرسمي والخاص، بريقه وتأثيره، وأصبح هامشيا تماما، خصوصا مع طغيان الإعلام المجتمعي، وتطور مفهوم صحافة المواطن، وازدهار السوشال ميديا، مع إقرارنا بما تشتمل عليه الأنساق السابقة من تجاوزات لا تبيحها الحرية، وأن بعضها يدخل في باب المساءلة القانونية والأخلاقية بسبب عدم تبلور الأبعاد القانونية في التعاطي مع المعلومة وتداولها لدى الناشر. هذا الأمر مهم جدا، فبسبب الفوضى التي تعم السوشال ميديا و"صحافة المواطن"، التقطت السلطات العربية الإشارة، واعتبرتها فرصة على طبق من ذهب، فبنت سدا قانونيا منيعا أمامها، بتشريعات مليئة بالحبائل والمصائد، تعدت السوشال ميديا نحو جميع المؤسسات العاملة في حقل الإعلام، وكثير من تلك التشريعات يمنع بقسوة الرقابة على السلطة التنفيذية تحت ذرائع شتى، وتحصن بشكل قوي قضايا الفساد والفاسدين من التداول، ليبقى المال العام عرضة للنهب بلا حسيب أو رقيب. الإعلام العربي اليوم يعيش في إطار مفهوم "الفرجة"، تماما كما هو الحال في "مسرح الفرجة" الذي يشارك فيه الجمهور بأدوار معدة لهم مسبقا، وبهامش محسوب أو متوقع، بينما هم يعتقدون بأنهم كانوا تلقائيين بردود أفعالهم، وأحرارا بالطريقة التي تعاطوا فيها مع المشهد!اضافة اعلان