الإمكانات الوطنية بوابة الاقتصاد الوطني

الدكتور ابراهيم بدران

أصبح من المسلمات اليوم، أن ثروات الأمم لا تقاس بالخامات الطبيعية التي لديها، سواء كانت نحاساً ام نفطاً أم أي مادة أخرى، وإنما تقاس بالثروة البشرية والتي تقوم على عنصرين أساسيين: العقول المبدعة والمهارات المتميزة والتي من خلال انخراطها الكامل في العمل والإنتاج تصنع الثروة المادية التقليدية أي المال ومن ثم الازدهار.اضافة اعلان
وهذه الفكرة أو النظرية ليست موجهة للمفكرين والمثقفين، وإنما بالدرجة الأولى موجهة للسياسيين وقادة المؤسسات الرسمية.
والامثلة في العالم كثيرة ابتداء من سنغافورة وسويسرا وقبرص، وانتهاء برواندا والبرتغال. وإذا نظرنا إلى بلدنا العزيز نجد ان هذه الثروة البشرية موجودة منذ سنوات وتتزايد عاما بعد عام.
فحسب التقارير الدولية فإن دليل رأس المال البشري في الأردن 55 % ولكن استثمار رأس المال هذا ليس كما ينبغي. فترتيبنا في استثمار رأس المال البشري 90، في حين تسبقنا كل من الكويت والسعودية وعمان وقطر والإمارات وتركيا ناهيك عن اوائل الدول مثل سنغافورة وفنلندا والسويد.
وفي نفس الوقت لا تكاد تذهب إلى بلد عربي إلا وتجد خبراء وفنيين أردنيين في كل المستويات وفي جميع التخصصات، ولا تذهب إلى جامعة دولية إلا وتجد طلبة أردنيين. وبالنسبة للمهندسين على سبيل المثال فنسبة المهندسين إلى السكان هي الأعلى على مستوى العالم 2.3 % بينما الرقم 0.8 % في اليابان و0.75 % في سنغافورة. ولكن تصل البطالة بين المهندسين في الأردن إلى 25 % وفي الجامعات الأردنية الأهلية والخاصة لدينا أكثر من 12 ألف أستاذ جامعي في مختلف العلوم والتخصصات.
ومع هذا، فإن الوضع الاقتصادي في تراجع مستمر، بدليل البطالة والفقر التي ارتفعت مؤشراتها وبدليل المديونية والاعتماد على الاجنبي، سواء كان ذلك في الإفراط في استيراد السلع أو استيراد المال من خلال الاقتراض المتزايد، أو البحث المتواصل عن المنح والمساعدات.
وهذا يعطي الدولة في الخارج مظهرا ضعيفا وخاصة للمستثمرين من جهة، وللدول أوالمؤسسات الأجنبية التي لها تطلعات سلبية تجاه الأردن من جهة أخرى.
هذا ولا بد من التأكيد اننا لا نحمل تجاه الآخرين إلا الاحترام والمودة، ولا نستعمل كلمة اجنبي هنا إلا فقط للتمييز بين المؤسسة الأردنية والمؤسسة غير الأردنية. ومنذ 25 سنة أو أكثر، وفي كل مرة يكون لدينا عمل كبير، أو مشروع جديد، أو حاجة إلى تمويل، أو ضرورة لشراكة، تسارع اجهزة الدولة للبحث عن جهة أجنبية اما للدراسة أو التمويل أو التنفيذ والبناء أو الشراكة وتسبغ عليها صفة الشراكة الإستراتيجية، وكأن الاردن دولة ناشئة منذ بضع سنوات فقط، وكأنها تشق طريقها من الأدغال الى آفاق الحضارة، وليس دولة عمرها 80 أو90 أو100 عام.
تتعامل الإدارة مع متطلبات التنمية المضطردة وكأنه ليس في البلاد خبراء ولا مهندسون ولا علماء ولا مخططون ولا مستشارون ولا بنوك ولا شركات كبيرة ولا جامعات، بل ولا مواطنون لديهم الاستعداد للمساهمة بكل ما يخدم بلدهم من جهد ومال.
وعند الحديث عن الاستثمار تتجه أنظار الإدارة إلى الاستثمارات الأجنبية (وهي مرحب بها دائماً) دون الالتفات ولا التركيز على الاستثمارات الوطنية والمستثمر الوطني.
ومرة ثانية، انتشرت ثقافة المساعدات والتوجه نحو الأجنبي(مع الاحترام) والبحث عن المنح والقروض، وتعمقت هذه الثقافة حتى غدت هي المحور الرئيسي في تفكير الادارة.
وراحت هذه التوجهات تغطي أصغر الأعمال كمجموعة مدارس أو مدرسة صناعية، وتمتد الى أكبر المشاريع مثل الطريق الصحراوي ومحطات الكهرباء وخطوط المياه ودراسات الجدوى.
وغدا خبر المنحة أو المساعدة أو القرض يظهر في الصفحات الأولى للجرائد وفي مقدمة الاخبار، وتظهر صور المسؤولين فرحة مبتسمة تفيض سعادة وثقة بما تم تحقيقه. وفي نفس الوقت وأحياناً على نفس الصفحة في الجريدة أو نشرة الأخبار، تقرأ أو تسمع ان ميزانيات البنوك المرخصة في المملكة حوالي 60 مليار دينار لعام 2021 وأن ودائع الأردنيين في البنوك المحلية 34 مليار دينار، وان الأردن يتطلع للمساهمة في إعمار كل من سورية والعراق وليبيا وربما اليمن.
مقابل ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية نتيجة لثقافة المنح والاقتراض أوما يسميه البعض «ثقافة أعطيني»، أين رأس المال البشري الأردني؟ وأين الثروة البشرية التي نعتز بها دائما؟.
ومرة ثالثة، ما أن يكون هناك مشروع كبير حتى يشاهد المواطن ان شركة اجنبية أو ائتلاف من شركات اجنبية قد أحيل عليه المشروع ليبدأ بالتنفيذ معتمداً على مهندسيه وخبرائه الأجانب، بينما الشركات الأردنية تشاهد الموقف بأسى وتعجب.
وكان من هذه المشاريع المعروفة بركة البيبسي التي مضى عليها 40 عاماً وعاصرتها 35 حكومة و22 رئيس وزراء. ومع هذا أحيل المشروع في النهاية على ائتلاف من شركة اسبانية وسعودية بكلفة 12 مليون دينار. وسبق ذلك مشروع خط الديسي عمان الذي نفذته شركة تركية والصخر الزيتي الذي نفذه ائتلاف من شركات صينية واستونية وآخرين، وغيرها الكثير.
لقد كان من نتائج هذه السياسة ومن مخرجات ثقافة الاقتراض والمسارعة الى التمويل الأجنبي.
أولاً تصاعد الدين العام بوتيرة تدعو للقلق. فارتفعت المديونية من 5.5 مليار دينار عام 1999 الى 11.5 مليار عام 2010 الى 22.8 مليار عام 2015 دينار الى 35 مليار دينار عام 2022 ووصلت خدمة الدين العام الى 1.25 مليار دينار سنوياً.
ثانياً: انها اضعفت الموقف الأردني بالنسبة للمستثمرين. فالمستثمر وخاصة الأجنبي ينظر الى المديونية المتسارعة كمؤشر على حالة التراجع الاقتصادي، وبالتالي يبني قرارته على هذا الأساس.
ثالثاً: انها وسعت من هجرة العقول والمهارات وساهمت في ارتفاع معدل البطالة بين خريجي الجامعات.
رابعا: أنها أضعفت من سوق العمل وجعلته هلاميا ليس له خصائص محددة يمكن البناء عليها.
خامسا: أنها لا تتيح الفرص لرأس المال الوطني بما في ذلك صغار المدخرين ليشاركوا في التمويل كما كان الحال في القرن الماضي حيث تم إنشاء الشركات الكبرى بأموال أردنية.
سادسا: أنها تحرم الكوادر الوطنية من اكتساب الخبرة في المشاريع الجديدة.
سابعا: أن القروض والمساعدات تستوجب فتح الباب للشركات الأجنبية على مستوى عالمي أو للدول التي تقدم المنح والقروض.
لقد آن الأوان لهذه السياسة ان تتغير ولهذه الثقافة ان يتم استبدالها بثقافة الاعتماد الذاتي بالجهد والعلم والخبرة والمال. فأي مشروع يجب النظر اولاً في امكانات دراسته وتصميمه وتمويله وتنفيذه من قبل الشركات الأردنية ومن المواطنين الأردنيين، من خلال شركات مساهمة قائمة أو جديدة، ومن خلال التعاونيات وصناديق الادخار.
حتى المشاريع الكبيرة فيمكن تمويل جزء كبير منها من خلال رأس المال الأردني والتمويل الجماهيري أي مشاركة أعداد كبيرة من المساهمين بمبالغ متواضعة. إضافة إلى مساهمات البنوك والشركات الكبرى والحكومة.
وحتى يتوقف تدحرج الاقتصاد الوطني نحو المستقبل المجهول، فإن عقدة الإدارة في الانجذاب إلى المشاريع الضخمة التي تتطلب التمويل الضخم والوقت الطويل، وبالتالي اللجوء إلى الخارج للتمويل والتنفيذ، يجب أن تنتهي. فالاقتصاد المتواضع الحجم ،كاقتصادنا، يقتضي «استراتيجية الحلول التراكمية» وإعطاء الأفضلية للمشاريع المناسبة للإمكانات الوطنية، وهي محل ثقة وتقدير.