الإنسان الكُلّي: النسق الحضاري

معاذ بني عامر

السؤال الافتتاحي هَهُنا هو: من هو الإنسان الكُلّي، وما هي الآليات التي يشتغل عليها، لكي يتجلّى تجلّيه الأكبر في العالَم، ويؤدي -من ثمَّ- دوره الحضاري؟اضافة اعلان
فلسفياً -ابتداءً- "روح الشعب" بعد "الروح المُطْلقة"؛ فهي بمثابة التكتّل اللانهائي مقابل فردية الروح المطلقة وواحديتها. فالتموقع في الزمن والمكان، يتطلّب روحاً تعدّدية، تنوّعية، لإحداث نوعٍ من التوازن بين "الواحد" و"المُتعدّد". لذا -بطريقة أو أخرى- روح الشعب، هي تجلٍّ للروح المطلقة، ولكن بطريقة عكسية، فهي إذ تتعدّد وتتنوّع، وتنتشر أفقياً، فإنّ الروح المطلقة تميل ناحية الواحدية المحضة.
مرة أخرى، من هو الإنسان الكُلّي، وكيف يتجلّى في العالَم؟
عملياً، ليس ثمة وجود فعلي لإنسان كُلّي. وكلّ ما نعاينه ويمكن أن نلمسه على أرض الواقع هو:
1- إنسان بصفةٍ فردية، كالحدّاد أو الطبيب أو الفيلسوف أو الفنان أو مبرمج الإلكترونيات.
2- إنسان بصفةٍ جماعية، كأبناء القرية الواحدة أو العشيرة الواحدة أو المجتمع الواحد.
3- إنسان بصفةٍ تاريخية، كإنسان العصور الوسطى أو إنسان عصر الأنوار الأوروبي أو إنسان العصور القديمة.
4- إنسان بصفةٍ وطنية، كالإنسان الأردني أو البرازيلي أو الفرنسي.
5- إنسان بصفةٍ قومية، كالإنسان العربي أو الإنسان الفارسي أو الإنسان الهندي.
6- إنسان بصفةٍ عقدية، كالإنسان المسلم أو الإنسان البوذي أو الإنسان المسيحي.
7- إنسان بصفةٍ طائفية، كالإنسان الشيعي أو الإنسان البروتستانتي أو الإنسان الإباضي.
8- إنسان بصفةٍ مهنية، كالأطباء والمهندسين وسائقي حافلات النقل العمومي.
9- ... إلخ.
وعليه، فالإنسان الكُلّي بما هو كذلك، صيغة ذهنية مُجرّدة، تتموضع في العقل النظري، لكن على أرض الواقع الكُلّ مُجزّأ، مُفتّت، مُشظّى، إلا أن مجموع هذه التشظيات الجزئية في الواقع المعيش، تُشكّل الإنسان الكلّي على المستوى النظري. فالحشد للأجزاء المُتمظهرة واقعاً سيفضي -ضرورةً- إلى كُلٍّ ذهني، مع الاحتفاظ بمسافة بينهما، لما تنطوي عليه معادلة "الكُلّ + الأجزاء" من فراغ ما، لا يمكن ردمه، نظراً للنزول من أعلى إلى أسفل؛ أعني من أعلى الرأس إلى الواقع المعيش.
إنّ الإنسان الكُلّي إذ يشرع في مُعاينة الوجود في الزمن والمكان، فإنّ معماره الذهني ينحلّ فوراً، ويتفتّت إلى أجزاء من الأهمية بمكان وجودها، لغاية عمارة الكون عبر فعل حضاري مُتنامٍ ودائم. وعندما تشرع الأجزاء في أداء دورها الحضاري، فإنها تُساهم في إعادة سكب مصكوكة الإنسان الكُلّي، وتعيد له اعتباره الفلسفي بالتالي.
والانتقال من الحالة التجريدية الساكنة إلى الحالة الواقعية المُتحرّكة، يتطلّب إحداث خلل بنيوي في الصيغة الأساسية لهذا الإنسان، فالاكتمال الذهني ينبغي أن يصير نقصاً على أرض الواقع، مع الأهمية القصوى لهذا النقص لبناء العالَم حضارياً. فتلك الذات المطلقة معزولة عن سياقات العالم الزمكاني، والمهمة منوطة بالإنسان الكلّي؛ تحديداً الإنسان الكُلِّي المُفتّت، فالتفاصيل الصغيرة، بحاجةٍ إلى ذواتٍ عديدة، للمساهمة في إنجاز منمنمة الحضارة الإنسانية. وهذا ما حدث ابتداءً، فقد وُجدت ذوات لا حصر لها، وتدافعت -بوعي أو من دون وعي- لبناء العالم، فعبر تلاقح حيوات هذه الذوات، تجلّت روح الشعب في الزمن والمكان، وأدّت دورها الضروري واللازم. فلقد تفاعل الحدّاد -كمرحلةٍ متطورة ومتقدمة- في صياغة المشهد الحضاري الإنساني، مع البنَّاء والمُزارع والعسكري والإمبرطور والموسيقي والرسام والكهربائي والنجّار والفيلسوف والطبيبة وخبيرة الأشعة والناسك وعامل الميناء والمُمثّل والسائق والطيّار والمهندس وعامل الكيبلات الكهربائية... إلى آخر هذه السلسلة البشرية العريقة، ابتداءً بإنسان العصور السحيقة مروراً بإنسان العصور الحديثة، وصولاً إلى إنسان العصور المستقبلية، إذ انشكلت حلقات هذه سلسلة الإنسان الكُلّي في الواقع المعيش، ودفقت -بناءً على هذا الانشكال- نهر الحضارة العظيم.
وإذا كان الإنسان الكلّي قد تفتّت في الزمن والمكان إلى إنسان مُجزَّأ، فذلك ليس منقصة لهذا الإنسان، وإنزالا له من برجه الفلسفي إلى حصاره الأرضي، بل هو أكبر إنجاز أخلاقي إنساني في هذا العالَم، إذ تعي الذات (الفردية/ الجمعية) أن لا قيمة لأي نشاط حضاري إلا بتجمّع لحيوات كثيرة وعديدة، دونما اعتلاء لبعضها فوق بعض، بل الكُلّ يدفق لإبراز دوره في هذا العالَم، بما لا يلغي أدوار الآخرين، ويعقّب عليها سلباً. فالقيمة التي يحملها الإنسان الكُلّي في ثنايا مواضعاته العيانية، هي قيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، نظراً لانحيازها المبدئي للإنسان بما هو كذلك، بعيداً عن أي اعتبار جغرافي أو تاريخي أو قومي أو عقدي أو طائفي أو وطني... إلخ، يجعله يمتاز على الآخرين، بل الأساس لقيمته الإنسانية، وقدرته على تنشيط حيواته وتفعيل دورها الإيجابي في هذا العالَم، بصرف النظر عن المكان والزمان اللذين ينشط بهما حضارياً.