الابتلاء

د. محمد المجالي*

الابتلاء سنة من سنن الله التي أرادها في خلقه، بل ربما يكون أول سنة أريدت من وراء خلق الإنسان، قال تعالى: "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً" (الإنسان، الآية 2). وهذا يدل على أهمية الابتلاء، وضرورة أن يدرك الإنسان نفسُه هذه الحقيقة فلا يغض الطرف عنها؛ فنحن في الدنيا في امتحان، المُمْتَحِنُ فيها هو الله، امتحان في شكله بسيط، ولكنه في تفاصيله وما يتعرض العبد فيه مع مرور الزمن من أحداث يصبح أكثر تعقيدا، والموفَّقُ هو الذي يعتصم بالله في كل حال، ليهديه صراطه المستقيم.اضافة اعلان
وكما يقول الأصفهاني، ففي الابتلاء معنى المشقة والاختبار، وبه تُعرَفُ حالُ المُبتَلى، خاصة ما يُجهل من أمره، لتظهر جودته أو رداءته. ونحن في هذه الحياة الدنيا في ابتلاء عام من أجله خَلقنا الله عز وجل وكلّفنا. فنحن مبتلون بطاعة الله تعالى، سواء في أداء ما أمر أو في اجتناب ما نهى، فالتكليف ابتلاء من حيث إنه مشقة على الأبدان، فهو من هذا الوجه بلاء واختبار، ولهذا قال الله سبحانه: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" (محمد، الآية 31).
واختبار الله تعالى للعباد يكون تارة بالمسارّ ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فالمحنة والمنحة كلتاهما بلاء، قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" (الأنبياء، الآية 35). فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر. ويقول الراغب بأن القيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين. وبهذا النظر قال عمر بن الخطاب: "بُلينا بالضراء فصبرنا، وبُلينا بالسراء فلم نصبر". ولهذا قال أيضا: "من وُسِّع عليه دُنْياه فلم يعلم أنه قد مُكِرَ به فهو مخدوع عن عقله".
وقد ورد مصطلح الابتلاء ومشتقاته في القرآن في ثلاث وثلاثين آية، وتنوعت السور المتحدثة عنه مكيّها ومدنيّها، والسر في ذلك أن الابتلاء مرتبط بما يريده الله من معرفة حقيقة إيمان العبد وظهوره، وهذا غير مرتبط بزمن محدد، فعرّضهم للابتلاء وهم في مكة وهم في المدينة، والأمر باق إلى يوم القيامة، إذ إن الابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، ولا بد أن يبقى العبد متوقعا للابتلاء حتى لا يركن إلى نفسه، أو يجزع، بل يبقى مجاهدا لها ومعالجا أمره بين الشكر والصبر، ولا يأمن مكر الله من جهة، ولا ييأس من روْح الله من جهة أخرى.
ومن خلال استعراض آيات الابتلاء في القرآن، فقد ارتبط هذا المفهوم بعدة مسائل، منها:
1 - أنه الغاية الرئيسة من خلقنا، لعبادة الله ومعرفة أينا أحسن عملاً، كقوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" (الكهف، الآية 7)، وقوله: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك، الآية 2).
2 - ارتبط بالتكاليف التي يريد الله من ورائها معرفة من يطيع ومن يعصي ومن يتردد، وعلى وجه التحديد تلك الأمور الشاقة ومنها موضوع الجهاد. ولذلك، ارتبط الجهاد بالابتلاء في كتاب الله في مواضع كثيرة، وفي هذا إشارة إلى أهميته من جهة، وأنه من الوسائل الأكثر كشفًا عن حقيقة إيمان العبد، حين يُمْتحَن في المفاضلة بين نصرة الدين من جهة، وحب النفس من جهة أخرى، ويا له من امتحان. ولذلك، رتب الله الأجر العظيم للمجاهدين. ومن الآيات في ذلك قوله تعالى: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" (محمد، الآية 31)، وقوله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" (البقرة، الآية 155)؛ فنقص الأنفس غالبا في القتال. وقد جاء قبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون"، وقوله: "هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزِلوا زلزالاً شديدًا" (الأحزاب، الآية 11)، وتصف هذه الآية ما كان فيه المسلمون من حرج في غزوة الأحزاب.
3 - ارتبط بالاختبار بما يوقعه الله على الناس من سراء أو ضراء لمعرفة الشاكر من الكافر، والصابر من المعترض على قَدَرِ الله سبحانه، وفي هذا يقول سبحانه: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" (الأعراف، الآية 168)، ويقول: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون" (الأنبياء، الآية 35)، وهي آية عامة. ويقول على لسان سليمان عليه السلام بعد سماعه كلام النملة: "ليبلوني أأشكر أم أكفر" (النمل، الآية 40). ويقول عن إحدى طبائع الإنسان: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن" (الفجر، الآيتان 15 و16)؛ وهما آيتان عامتان كما لا يخفى، وجاءت آيتان أخريان تتحدثان عن بني إسرائيل في قصتين مختلفتين، إحداهما عن القرية التي كانت حاضرة البحر، فقد ابتلاهم الله بمجيء السمك يوم السبت وغيابه طيلة أيام الأسبوع، وقد نُهوا عن الصيد يوم السبت، فعقب الله على ذلك بقوله: "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون" (الأعراف، الىية 163). وقال في قصة طالوت مع بني إسرائيل: "فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهَر، فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده.." (البقرة، الآية 249).
4 - وارتبط الابتلاء بما قصه الله علينا من قصة بني إسرائيل وما ابتلاهم به فرعون من التقتيل، فقد ورد قوله تعالى: "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم"، في حقهم في ثلاث آيات في سور: البقرة (الآية 49)، والأعراف (الآية 141)، وإبراهيم (الآية 6)، وغير ذلك من الآيات.
5 - وارتبط بما يكون يوم القيامة من البلاء العظيم، فقال سبحانه: "يوم تبلى السرائر" (الطارق، الآية 9)، ويقول: "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت" (يونس، الآية 30).
6 - وارتبط بما ابتلى به الله أنبياءه، قال تعالى عن سليمان: "قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر" (النمل، الآية 40)؛ وهذا ابتلاء بالشكر على النعمة. وقال عن قصة إبراهيم وابنه إسماعيل لما أراد ذبحه طاعة لله واستسلام الابن لأمر الله: "إنّ هذا لهو البلاء المبين" (الصافات، الآية 106)؛ وهذا ابتلاء بالتكليف في أمر من أصعب الأمور، ولذلك قال سبحانه عنه بأنه بلاء مبين.
إنها الحياة الدنيا بما فيها من نكد وتنغيص وتعب ومشقة، أرادها الله هكذا لنشتاق إلى دار سليمة من هذا كله، إن أحسن أحدنا التصرف صبرا وشكرا، وأدرك أبعاد ما ابتلي به، ومراد حكمة الله منه، وسبحانه حين يقول: "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (البقرة، الآية 216). ويا له من أمر مهم باعث على الرضا والاستقرار، بل مشعرٍ بحب الله لذلك العبد، فالأنبياء أشد ابتلاءً، ونحن في زمن يطمح أهل الحق فيه إلى التمكين، وقد سئل الشافعي: "أيها أفضل للرجل، أن يُمَكَّن أو أن يُبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يُبتلى".


*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية