الاجتهاد والذهنية الإفتائية

منذ أطلّ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده على الواقع العربي الغارق في التخلّف العثماني واحتلاله، عرفت الثقافة العربيّة تحرّكاً من سُبات الاجتهاد. فقد مرّت مئات السنين منذ انهيار الدولة العباسيّة على دخول الأمّة في نفق الاجترار والتكرار وطرح أسئلة الجنّ والشياطين، وإذا ما كان يجوز نكاح إحداهنّ! وانتعش فقه الاستنجاء والعورة وإقصاء المرأة، حتى قرّت النساء في الأميّة والبيوت (يتلوها الرجال في الأولى)، مذمومات الظهور مثل وباء! مكروهات الحضور، رهينات المحبسين: محبس البيت ومحبس الجهل. وسأضيف إليهما محبساً آخر هو القهر بأنواعه والظلم بما جادت به سياسة بني عثمان، والتقهقر عن صناعة التاريخ!اضافة اعلان
بعد محمد عبده، وبالرغم من مقاومة أفكاره عبر اغتيال شنيع لشخصيّته، وإثارة شكوك حول أصل أستاذه الأفغاني، ونشاطه ومناهله في العلم، فإنّ عصراً جديداً من إحياء الاجتهاد أطلّ على العرب، ظلّت تقاومه قوى الشدّ العكسي في المجتمعات العربيّة، والكتل التقليديّة المتشكّلة بالاتباع، والكارهة لكلّ أشكال الإبداع! فظهور الشيخ علي عبدالرازق والشيخ محمود شلتوت والشيخ مصطفى الزرقاء وطه حسين والعقاد وسواهم، على طول النصف الأول من القرن الماضي ويزيد قليلاً ليشمل الستينيات، وبرغم المقاومة العنيفة لما طرحوه من قراءة اجتهادية مستنيرة، أعطى هذا الظهور معنى لاسم "عصر النهضة"، وعنون مرحلة الانسلاخ عن بني عثمان وعن عصور الانحطاط الطويلة التي توقّف فيها العقل العربيّ عن المساهمة في خلق الفضاء المعرفيّ الكونيّ. بل بلغت حريّة التفكير والإبداع أن صارت بيروت منارة لهما، وعاصمة للكتاب والثقافة والفن والأدب حتى التجريبيّ منه! وكان من الممكن ظهور إلحاديّ كسلامة موسى، يجهر بآرائه دون أن تناله رصاصة قناص، أو تختطفه جماعة أوكلت لنفسها مهمة حماية الدين كمثل أيّ قاصر أو قليل حيلة!
وإذا نظرنا في تجربة الستينيات مثلاً، فسنرى أنا قد نشأنا ونهلنا العلم دون أن يكون سيف "الحلال والحرام" مصلتاً فوق رؤوس الناس. ذلك أنّ قيم العلم والتقدّم والعقل هي التي كانت تقودنا في مسلكنا، وتسمُ تفكيرنا الحر.
ولكن ما نحن فيه الآن هو موت الاجتهاد، أي موت الحريّة الفكريّة، وموت القدرة على الخلق واجتراح الحلول! فكلَما ابتعد المجتمع عن استخدام رأسه (أي عقله)، بحث في حواضر البيت وفي سقط المتاع عما يسدّ فراغ معدته ويستُر عريَه. ولأن المجتمعات العربيّة الآن لا تستخدم رأسها، لا قليلاً ولا كثيراً، فإنها بدل أن تنشط في الاجتهاد بأنواعه، تلجأ إلى طلب الفتوى! وما التكاثر الجرثومي لفضائيات الإفتاء ومواقعه الإلكترونية، إلا بعضَ وجوه سقوط أمة "اقرأ" في الأميّة الفكريّة، بل والأخلاقيّة! ذلك إنّ الإفتاء غدا سلوكاً يومياً يطلبه الرجل والمرأة في شؤون الحياة التافهة والسخيفة قبل الجليلة! وتقليبٌ سريعٌ للفضائيات والمواقع سيوقفنا على مدى السقوط المروّع في عتمة الجمود الفكريّ، وانتهاك حرمة العقل! والمصيبة أنّ هذا السقوط يرفع أكثر الشعارات بريقاً ولمعاناً؛ أعني "العودة إلى الدين"! فباسم الدين الآن تُنتهك الأفكار وقيم التحضّر وحياة البشر! ولن يكون غريباً أن يصبح النقاش في مجلس عزاء مثلاً حول صحة لعق الإناء! كما لن يكون غريباً أن يفتي فرد أو جماعة (أو أي أميّ وأميّة) بصحّة حرقِ مقرّ لحزب مناوئ، أو سحل مخالف، أو إعدام فوريّ ميدانيّ لمشتَبَه فيه! فالذهنيّة الإفتائيّة جاهزة للتدمير، كما هي جاهزة لتبرير الضعف والتخاذل مثل العدوان والعنف والتكفير والتشهير واغتيال الشخصيّة والتعصّب وإشهار حروب الطائفيّة وإفناء الآخر!
لنحاول أن لا نفقد الأمل!!!