الاختطاف الرقمي الناعم لأطفالنا

د. محمود أبو فروة الرجبي

واهمٌ من يعتقد أنه يسيطر بشكل كامل على تربية طفله، وقادرٌ على أن يرسم له القيم، والأخلاقيات، والسلوكيات التي يرغبها فيه، لأن الحياة تغيرت، وعالم الرقمية جعل مصادر التربية متعددة، وأرجع تأثيرات الأب والأم والعائلة على الطفل إلى الوراء، بحيث أصبحت العائلة مصدرًا من مصادر التربية، ولم تعد هي الأساس.اضافة اعلان
مقولة إن الشارع يربي كانت الأكثر رعبًا في عالم تربية الطفل، وتطلق على ذلك الطفل الذي يقضي أوقاتًا كبيرة من نهاره في الشارع، فيتأثر بمجموعة غير مرغوبة من الأطفال أصحاب السلوكيات السلبية، وكان الأمر يتطلب من الأهل تنظيم خروج ابنهم إلى الشارع، وتحديد نوعية الأشخاص الذين يختلط بهم، وفي حالة الخطر منعه من الخروج بالكامل وتعويضه بنشاطات أخرى تشغل أوقات فراغه، لكن المعادلة تغيرت كليًا الآن.
مع الإنترنت والرقمية لم ينتقل شارع الحارة إلى الـمنزل فقط، بل أسوأ شوارع العالم أصبحت متواجدة في بيوتنا، ومن خلال الألعاب الرقمية أصبح الطفل يتعامل مع أقران مختلفين من دول عدة، وإذا كنا في تربيتنا لطفلنا نخاف من فيروسات أخلاقية سيئة منتشرة في الشارع المحلي، أصبحت فيروسات العالم السيئة كلها عندما.
فرضت الرقمية واختلاط الطفل بعالم أوسع تحديات كبيرة في التربية، وجعلت التحكم بمدخلاتها صعبًا للغاية، لذلك، قد لا نجد المخرجات ترضينا إلى حد كبير، فهل هذا معناه الاستسلام، وترك أطفالنا فريسة للاختطاف الرقمي الناعم؟
لن نأت بجديد إذا قلنا إن تقنين استخدام الألعاب الرقمية، ومراقبة دخول الطفل إلى الإنترنت يقلل مثل هذه المخاطر بشكل كبير، ومع هذا، فإن أي عائلة لا تستطيع مراقبة طفلها لفترة طويلة، خاصة مع انشغال الأب والأم، واضطرار كثير من الآباء للانخراط بأكثر من عمل من أجل توفير لقمة العيش للعائلة، إضافة إلى أن جزءًا من الأمهات يعملن خارج الـمنزل، والأم المتفرغة تمامًا لتربية الأطفال لديها مسؤوليات عديدة داخل الـمنزل لا تعطيها فرصة الـمراقبة الكاملة لأطفالها.
أصحاب نظرية منع الطفل تمامًا من التعامل مع الألعاب الرقمية، أو الدخول وحدهم إلى الإنترنت غير عمليين، لأننا لا نستطيع (تكهيف) أبنائنا، وقد اخترعت هذا الـمصطلح في دوراتي وأقصد به وضع الطفل في محيط العائلة وإغلاق كل المنافذ التي تؤدي إلى اختلاطه بغرباء، لأن وضع أطفالنا في وضع كهذا، ومنعهم من التفاعل مع محيطهم له آثار نفسية هائلة قد تؤدي إلى صناعة طفل معقد، غير قادر على التفاعل مع محيطه، ولا يمتلك الأدوات التي اكتسبها أقرانه، وهذا ليس في مصلحة طفلنا.
الحل الأكبر يكون بدعم الـمحتوى العربي في مجال الألعاب الرقمية وغيرها بحيث يتم عمل ألعاب قيمية تركز على الأخلاقيات العالية، وتبعد الطفل على المنافسة المحمومة لتدمير الخصم – كما في الألعاب الحالية-، وتركز على التنافس الشريف، والناعم، وفي الوقت نفسه تطوير برمجيات تتعامل مع المناقشات البذيئة والعنيفة – من خلال الألعاب- على أنها عمل سيئ يتم حظره فورًا، وإعطاء تقارير فيه للآباء ليعرفوا نوعية الحوارات التي يقوم بها أطفالهم، علمًا أن البرمجيات الحديثة قادرة من خلال الـمسح (السكاننيغ) على مراقبة الحوارات الدائرة بين الأطفال أثناء اللعب، والتأشير إلى المضامين غير المرغوبة، ولكن، ما دمنا خارج إطار تصنيع مثل هذه البرمجيات فلن نستطيع فرض قيمنا، وأخلاقنا من خلالها.
الغالبية العظمى من أطفالنا تحت الاختطاف الرقمي الناعم، ولن يستطيع أحد منا التقدم ببلاغ إلى الأمن أو إلى أي جهة قضائية بهذا الخصوص، لأن النعومة في الـموضوع تجعلنا واقعين تحت رحمة الآخرين ومنتجاتهم، وبغير تطوير أدواتنا، وأبحاثنا، وصناعاتنا البرمجية، فلن نستطيع تقليل مخاطر الرقمية إلى درجة مقبولة، وإلى ذلك الوقت ليس بيدنا سوى القيام بإجراءات – ليست فعالة بالشكل الكافي – لحماية أطفالنا، وانتظار تغيرات إيجابية تحصل في هذا العالم قد لا تأتي أبدًا ما دمنا في سكون ابتكاري كما نحن الآن.