الاستثمار في رأس المال البشري

د. جواد العناني

عمان - لا تتوفر معلومات دقيقة عن حجم الاستثمار الأردني في رأس المال البشري، أو الموارد الإنسانية. ويكفي مثلاً أن نذكر بعدد الطلاب الذين يتقدمون هذه الأيام لأداء امتحان الدراسة الثانوية، والذين هم (123) ألف طالب وطالبة، عدا عن حوالي (20) الفاً يقدمون امتحان "السات، والبكالوريا، وغيرها". اضافة اعلان
ولو نظرنا إلى هؤلاء فقط، فإن حجم الاستثمار الرسمي والأهلي لن يقل عن مبلغ خمسة آلاف دينار لكل واحد طيلة سنوات الدراسة الاثنتي عشرة عن سبعمائة مليون دينار، أو مليار دولار.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء أعداد الذي سيتخرجون في الجامعات والمعاهد المتوسطة وغيرها بعدد ستين ألفاً، كما تقول لنا الدراسة الفنية التي قدمت أمام الملك عبدالله الثاني يوم الأربعاء الماضي، فإننا يجب أن نضيف مبلغاً يقارب خمسة آلاف دينار لكل طالب، أو ما يساوي (300) مليون دينار، أو حوالي اربعمائة وعشرين مليار دولار.
إذن، فالقيمة المصروفة لتغطية نفقات الدراسة على خريجي الثانوية والكليات المتوسطة والجامعات لن تقل بأي حال من الأحوال عن (5ر1) مليار دولار سنوياً.
وهذه الأرقام لا تغطي سوى النفقات الإضافية التي يتكبدها المجتمع من أجل تغطية نفقات تعليم الذين يتخرجون.
أما نفقات سنوات ما قبل المدرسة. ونفقات الكلفة الرأسمالية للمدارس والجامعات، ونفقة المعيشة وغيرها، فإنها لا تدخل في الحساب.
ودعونا نقبل هذه الأرقام المتواضعة، ونسأل عما يجري لهؤلاء بعد ذلك. فمن مجموع الـ(123) الف طالب الذين يقدمون امتحان التوجيهي، سوف يتجمع حوالي
(60 %) منهم حتى بعد الإعادة على أقصى حد. ولكن إذا أضفنا أصحاب المعدلات المتدنية، والراسبين فإن عددهم لن يقل عن (65) ألف طالب. ولنقل إنهم متساوون بين الذكور والإناث. فماذا يحصل لهؤلاء بعد ذلك؟ هل نعلم تماماً مشاكلهم الاجتماعية والنفسية؟ هل نحن واعون لقضاياهم وهمومهم؟ هل ندري كم يلتحق منهم بالعمل في القطاع غير الرسمي؟ هل ينتقلون للعمل في المصانع؟ أم ماذا؟؟.
ويقال إننا مقبلون على ما يسمى بالفرصة السكانية، والتي يقدر أن يبلغها الأردن العام (2030)، وذلك عندما يصبح حوالي ثلثي السكان في الأردن في سن العمل، ولو قدرنا عدد سكان الأردن العام (2030) بحوالي (10) ملايين نسمة، فهذا يعني أن هنالك حوالي (7ر6) مليون إنسان في سن العمل. فما الحلول؟
ولإلقاء الضوء على هذه القضية التي ستشكل التحدي الأساسي للأردن بعد ثمانية عشر عاماً، دعونا ننظر إلى الوضع الراهن. يقدر حجم القوى العاملة الوطنية حالياً في الأردن بحوالي (3) ملايين، يعمل منهم حوالي (35 %) فقط، و(5 %) منهم عاطلون عن العمل، والباقون لا يعملون. أي أن ثلث السكان العاملين ينفقون على الثلثين الآخرين من غير العاملين، بالإضافة إلى الأطفال والشيوخ الذين يقعون بسبب صغر أعمارهم أو كبرها خارج تعريف العاملين.
وإذا قارنا هذه النسب بدولة مثل تركيا، فإننا سنجد أن نسبة الأفراد العاملين والنشيطين بالمقارنة مع عدد الذين في سن العمل يبلغ حوالي (60 %)، ونفس النسبة إن لم تكن أكثر في اسرائيل. وإذا كان الحال على ما هو عليه الآن، فما بالك إن بقي الحال على حاله حتى العام (2030)؟.
وللتنويه هنا، فقد يتساءل البعض كيف نقول إن نسبة العاطلين حالياً هي (5 %) فقط، ونحن نعلم أن نسبة البطالة تزيد على
12 %؟ فأقول إن نسبة الـ (5 %) هي من مجموع الأفراد في سن العمل، أما نسبة البطالة فلا تقاس إلى هذا العدد، بل تحسب كنسبة من القوى العاملة فعلا، أو ما يساوي 5 % من أصل
الـ 35 %، أو السُبع، أو ما يساوي تقريباً
(14 %). وهي النسبة الأقرب إلى معدل البطالة السنوي، والتي قد تتذبذب من موسم إلى آخر.
ولذلك، فإن إطلاق خطة استراتيجية وطنية للاستفادة من القوى البشرية أو بتعبير أفضل الموارد الإنسانية في الأردن، لا بد أن يحتل أولوية قصوى في سلم اهتماماتنا، ويجب أن تنطلق هذه الاستراتيجية من تصورنا لما نريد أن يكون عليه حال الأردن العام 2020.
ولقد قام التصور الاستراتيجي الذي قدمه د.عمر الرزاز يوم الأربعاء الماضي بصفته رئيساً للفريق الفني الذي أجرى الدراسة، وكل أعضاء الفريق أردنيون يعتمد على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى تقوم على خلق وظائف سريعة، وتعتمد على مبدأ الإحلال التدريجي للقوى العاملة الوطنية مكان العمالة الوافدة. والخطوة الثانية تعتمد على إعادة النظر في مدخلات ومخرجات التعليم المدرسي والثانوي. والأخيرة تعتمد على تحفيز القطاع الخاص لكي ينهض بالدور الأساسي في توفير فرص العمل الجديدة، لأن القطاع العام وصل مرحلة الإشباع وأكثر.
ولمزيدٍ من التوضيح، فإن القوى العاملة الناشطة حالياً في الأردن موزعة بين القطاعين العام والخاص بنسبة (58 %) في القطاع الخاص، و(42 %) في القطاع العام. وهذه واحدة من أعلى النسب. وللتذكير، فإن الاقتصاد الأردني يخلق سنوياً في الوقت الراهن ما يقارب (60) الف وظيفة، يذهب ثلثها للعمالة غير الأردنية.
إذن، فنحن أمام معضلة. فمن ناحية، نحن لدينا خريجو جامعات لا يستطيع كثير منهم أن يجد فرصة عمل لأن تخصصه وخاصة في مجال الإنسانيات غير مطلوب في الأسواق. وكذلك عندنا آلاف كثيرة من خريجي المدارس ممن يحملون شهادات دون الدراسة الثانوية وهؤلاء إما عاطلون عن العمل، أو يعملون بوظائف مؤقتة. وفي المقابل هنالك أكثر من (600) عامل غير أردني يجدون عملاً داخل الأردن.
وحتى تبرز المعضلة بشكل أدق، فإن الاقتصاد الأردني قد نما خلال الفترة 2000-2009 بمعدل يزيد على (6 %) سنوياً، وهي نسبة محترمة بالفعل. ولكن نسبة البطالة بقيت على حالها، إن لم تزد. ولهذا أسباب مختلفة، فمنها أن نسبة الزيادة السنوية في القوى العاملة تبلغ حوالي (7ر2 %) سنوياً علماً أن عدد السكان يزيد حالياً بنسبة
(1ر2 %) سنوياً. وكذلك لأن نمو الاقتصاد قد انحاز للقطاعات المعتمدة على المهارات العالية والتخصصات الرفيعة كالهندسة والطب والإدارة المالية، أو إلى العمالة الرخيصة وخاصة من خارج الأردن.
ولذلك، فإن الفئتين الأكثر ظلماً في الأردن هما الشباب وخاصة من حملة الشهادات الجامعية في التخصصات الإنسانية والراسبين في الثانوية والمتسللين من المدارس قبل الانتهاء من الثانوية. والفئة الثالثة هي فئة النساء، واللواتي يشاركن فقط بنسبة تقل عن (15 %) في سوق العمل، وتبلغ نسبة البطالة بينهن ضعف معدل البطالة بين الذكور. إذن فالشباب من الفتيات أولاً والذكور ثانياً هم الذين يعانون الوضع الأصعب.
وفي ظل هذه المعلومات يثور السؤال الكبير. أليس الإنسان أغلى ما نملك، وماذا نحن فاعلون بهم؟ وحتى من زاوية الاستثمار هل يصبح سهر الليالي أيام الامتحانات، والكد والمعاناة المالية التي تمر بها الأسر والمخصصات المالية للتربية والجامعات، مبرراً بهذه النتائج؟ إن أعز ما نملك هو أسوأ ما ندير.  ولا مجاملة في هذا الأمر. إننا بحاجة ماسة إلى أخذ الاستراتيجية لاستثمار الموارد الإنسانية وتفعيلها بكل قوة. ومع وجود صور براقة، وقصص نجاح متميزة، وأمثلة ناصعة على مقدرة قوانا الإنسانية ومواردنا البشرية، إلا أن الصورة العامة تحتاج إلى حلولٍ جهد خلاق.  وإنّ تضافر جهود القطاع العام مع القطاع الخاص والمجتمع المدني بشكل فعال صارت ضرورة قصوى حفاظاً على البلد وأمنه ورخائه. ولكن على القطاع العام مسؤولية المبادرة والتمكين...
وهنا نطرح السؤال: من هو المسؤول عن استراتيجية الاستثمار في الموارد الإنسانية في الحكومة الأردنية؟ هل هي وزارة العمل؟ وزارة التربية؟ وزارة التخطيط؟ أم وزارة التعليم العالي؟ أم كل هؤلاء... إذن لا بد من التحرك الفعال لتنظيم عمل الحكومة والقطاع العام، فهي الأحوج إلى مثل هذه الاستراتيجية.
أحسنت وزارة التخطيط صنعاً بإشراكها لقدراتنا الأردنية في القطاعات الثلاثة لإنجاز هذه الاستراتيجية، والواقع أنها متميزة. وهذا هو الخبر الجيد. أما الخبر السيئ فهو أننا مطالبون بوضع كل هذا الجهد موضع التنفيذ وقبل فوات الأوان...

[email protected]