الاستشكال أساس النهضة

د. أحمد ياسين القرالة

الاستشكال من أبرز الظواهر التي لازمت الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض، فقد لاحظ الكثيرَ من الظواهر الطبيعية والمواقف المحيرة التي أثارت في نفسه الكثير من التساؤلات، كما واجهته العديد من المواقف الصعبة والحالات المعقدة التي حملته على السعي جاهداً لمحاولة تفسيرها والتغلب عليها وتوظيفها لخدمته ومنفعته، فطفق يبحث عن الحلول والتفسيرات لتلك الإشكالات والمواقف المحيرة، بالسؤال تارة و بالاستنباط تارة أخرى وبالتجريب أو المحاولة أو الخطأ.اضافة اعلان
وقد أسهم وجود المشكلات في تطوير الحياة وازدهارها، إذ إن هناك تناسبا طردياً بين وجود المشكلات وتقدم الحضارة وتطورها، فكلما زادت المشكلات كلما كان ذلك دافعاً للإنسان لحلها والتغلب عليها، فتتراكم المعرفة وتتقدم العلوم وتتطور الحياة وتزدهر الحضارة، وهو ما عبرت عنه العبارة المشهورة " الحاجة أم الاختراع "، فليست الحاجة أو الضرورة سوى مشكلة تضغط على الإنسان فيسعى إلى حلِّها بالتفسير والتعليل واستخلاص القوانين والقواعد العامة التي تحكمها، وهذا يؤدي بالضرورة إلى الإبداع والاختراع، وقد أشار إلى هذا الأمر الراغبُ الأصفهاني بعبارته الدقيقة والعميقة حيث يقول:
ولما جعل -اللهُ- للإنسان قوةَ الفكر ترك من كل نعمة أنعمها عليه جانباً يصلحه هو بفكرته لئلا تتعطلَ فائدةُ الفكرة ، فيكون وجودها عبثا.
ولحظةَ أن بدأ المسلم بقراءة القرآن والتأمل فيه اعترضته العديد من الآيات التي أثارت في نفسه استشكالات معرفية، ودفعته للبحث عن إجابات مقنعة لها، مما حمل العلماء إلى السعي لحلها والإجابة عليها، فألفوا في ذلك المؤلفات العديدة تحت مسمى مشكِل القرآن أو غريب القرآن وغيره، وكذلك كان الحال بالنسبة للسُّنة النبوية، حيث نشأ علم خاص بهذا الأمر يسمى علم مختلف أو مشكِل الحديث.
وقد كانت السيدة عائشة رائدةً في هذا المجال فكانت لا تقبل أي حديث أو نص أو خبر يثير لديها استشكالاً علمياً حتى تقف على تفسير مقنع له، ومن ذلك حديث تعذيب الميت بالبكاء عليه، وحديث يقطع الصلاة ثلاثة وغيرها.
وبما أنه من حق المسلم أن يسأل وأن يسعى لحل الاستشكالات العلمية التي تعترض سبيل تدينه، حتى يكون تدينه مبنياً على اعتقاد راسخ وإيمانه مستندا إلى قواعد متينة، فلا يجوز أبداً وصف تلك التساؤلات التي يثيرها المؤمنون -وحتى غير المؤمنين- بأنها شبهات أو مشاغبات أو غيرها من الأوصاف التي تحط من قدرها وتضفي عليها ظلالاً قاتمة من الكراهية وعدم المشروعية؛ وتصورها على أنها ضلال في الدين؛ لأن ذلك يؤدي إلى وأد المعرفة، وقتل الإبداع، ويترك المسلم يقارع الحيرة ويصارع الغموض ويعاني الاضطراب، مما يجعل تدينه قلقاً مبنياً على رمال متحركة، معرضاً للانيهار والزوال عند أي هزة، غير قادر البقاء والصمود أمام العواصف الفكرية والتحديات العلمية.