الاستقلال رؤية شخصية

قاومتُ أي اصطفافٍ سواء كان جغرافياً أم عشائرياً أم دينياً، ورغم انحيازي بشكل فطري تقريباً لقضايا العدالةِ والمساواةِ، فقد رفضتُ تقديسَ الفقرِ، ولم استسغ فقه الضحية، وكنت دائماً - ودونَ أي تأطيرٍ أيديولوجي - مؤمنٌ أن الفردَ قادرٌ على تغييرِ وتطويرِ حياته وواقعه اقتصادياً وثقافياً وعلمياً، انتمي لجيل الستينيات؛ جيل بلاد العربِ أوطاني، والوطنِ الكبيرِ والوحدةِ العربيةِ، والمواطنِ الكوني، الآخر الوحيد الذي في عالمنا كان هو العدو الصهيوني ليس بذاتهِ اليهودية بل بذاته الغاصبة الاستعمارية، والقضية الفلسطينية عندنا لم تكن قضية عداءٍ شخصي بالمعنى الضيق بل كانت قضية حق وعدل وحقوق انسان، شكلت لجيلنا دافعاً إنسانياً للحياة، للقراءةِ والفهمِ والحبِ والشعر والمثابرة والعمل.اضافة اعلان
الواقع لم يكن وردياً، فقد عشنا في فترة من الخوف والأحكام العرفية، وبعض البطش الناعم، وكان هناك شُقة بيننا وبين الدولة، التي أخفقت في تلك الفترة أن تكون دولة الجميع، وعشنا وذقنا - من كافة الأصول والمنابت - كهن السلطة في مواجهة كل من لا يروق لها، وكان منطق الدولة آنذاك أن الحفاظ على كيان الدولة، أهم من احترام الحقوق والحريات بالمعنى المطلق، ورغم أن السياسة العامة للدولة لم تكن كسر عظم المعارضة، ولا إحداث جروح وأحقادٍ عميقة فيها، إلا أن تلك الشُقة كانت حقيقة واقعة، ومن جانب آخر ومن باب الموضوعية فإن الهجوم على الدولة الأردنية كان شرسا، وتواصلت محاولات الإطاحة بها ثقافياً ومعرفياً وحتى عسكرياً، وتم تنميطها بموافقة أو صمت أغلب الدولة العربية، فهي دولة طارئة تارة أو دولة وظيفية تارة أخرى، والتآمر حينها على حياة الملك، وكذلك على كيان الدولة معروف للجميع، لكن المأساوي في هذا الهجوم على الأردن تجلى في أسوأ صورة؛ هجوماً على الشعبِ الأردني، وعلى وجوده وهويته، ولحقته بشكل أو بآخر تُهم الوظيفية والتبعية والتآمر وانعدام الهوية أو التاريخ، وكان هذا ألمٌ حارق قض مضاجع الضمير الوطني الأردني الذي يشهد له التاريخ قِدم انخراطه في معركة التحرير والعروبة والثقافة، وهو ما شكل إرثا حضارياً تقدمياً للأردن وشعبه، وهو التاريخ الذي غُيب لأسبابٍ مفهومة في مرحلة ما ومنها «أولوية القضية الفلسطينية»، ولأسباب غير مفهومة وغير مقبولة أخرى لها علاقة بمعادلات السياسة الداخلية والعربية، وقد عاصرنا زمنا لم يكن الأردن مرحباً به من أغلب الأنظمة العربية شعبية آنذاك.
ولدت في قرية صفا قضاء رام الله / فلسطين حيث كانت رام الله مدينة أردنية، يعمل فيها مواطنون من كافة أنحاء الوطن، وجميع وثائقي تشهد بأني مواطنٌ من المملكة الأردنية الهاشمية، وكان تصنيف جدي لأمي في القرية أنه رجل ملكي الولاء، وكان أهلي منقسمون بين اليسار والقومية، وأنا شخصياً انتسبت إلى اليسار في عمر مبكر، وقد عجزتُ عن فك طلاسم السطر الأول في كتاب «رأس المال»، وظل الفهم الأعمق لدي أن الأردن هو هوية أردنية عربية قومية بثقافة إسلامية ورحابة مسيحية، هويةٌ تزهرُ وتزهو في بيئتها الجامعة، وظل الأردني والأردن في فلسفته وتاريخه بلداً وشعباً يعبرُ عن ثقتهِ بإرثه باحتضان ثقافاتٍ وأعراقٍ وأديانٍ شكلها وشكلته «وطناً للجميع»، وطنٌ ليس كل ما فيه مثالي، ولكنه وطني! حيث يجتاحني فخر وأنا أشاهد جندي الاستعراض العسكري، وأعيش نبل الجيش العربي الأصيل، ويكاد يتوقف قلبي في مباراة المنتخب الوطني، أو حيث أتماهى في أبيات عن الحرية والمساواة لعرار الثائر الحر، أو أعتز بوعي الاكتشاف في إرث وطن عريق في كتب روكس العزيزي، وثقافة ولغة ناصر الدين الأسد، وحرقة قلب قصص تيسير سبول، أو عوالم هاشم غرايبه، ومحمد طميله، وفخري قعوار.
غايةُ القولِ أن الوطن ليس حالة مثالية ولكنه حالة انتماء ونماء، ولهذا فإن الاستقلال ليس حدثاً تاريخياً بل رحلة مستمرة فردية وجماعية ليظل الأردن كما هو إرثاً وهويةً وشعباً، وكما نسعى لأن يكون وطن الجميع ووطن الجمع، وطن تكافؤ الفرص وسيادة القانون والحريات وحقوق المواطن، وكل استقلال وأنتم أحرار جنابكم.