الاستقلال سيرورة وليس حدثا..!

علاء الدين أبو زينة يبدأ الاستقلال من اللحظة التي يُعلَن فيها عن تخلص أمة من احتلال أو سيطرة قوة أجنبية، ولا ينتهي هناك. ففي العادة تكون الأمة المُستعمَرة المتحررة حديثاً مترنحة جراء إجراءات القوة الأجنبية الرامية عادة إلى إضعافها وتقييد إرادتها وحركتها. وبذلك، ليس الاستقلال، بمعناه العميق، شيئاً ناجزاً ومفروغاً منه بمجرد فك الارتباط بالقوة المسيطِرة. إنه يبدأ فقط من هناك كعملية غير منتهية لاستعادة التوازن، وتحرير الإرادة والعقل، والموارد والطاقات، بهدف تحويله من وصف مجرد إلى واقع متحقق. ربما يشرح المعنى بدقة أكبر التركيب النحوي لمقابل كلمة «الاستقلال» بالإنجليزية، independence. إنها مشتقة من الفعل depend، «يعتمِد على»؛ وdependence، بمعنى «الاعتمادية»، ثم نفي الاعتمادية ببادئة تعني ضدها «عدم الاعتمادية» (in)dependence أي «الاستقلال». وبذلك كل اعتمادية تعني بقاء «الاستقلال» منقوصاً، وأصحابه موضوعاً ممكناً للضغط والابتزاز أو الحرمان. حتى يقترب الاستقلال من تحقق معناه، يجب تحقيق أكبر قدر من الاستقلال الاقتصادي، والغذائي، والأمني، والسياسي، والشخصي. سوف يعني ضعف عصب الاقتصاد وحاجته إلى من يمسك بيده ليقف على قدميه أن تكون المساعدة غالباً مشروطة برهن القرار لإرادة المانح(ين). وسوف يعني الاعتماد على الآخرين في الخبز احتمال التعرض للتجويع وكسر الإرادة وتهديد الأمن المعيشي. وبالمثل، سيعني الاعتماد على الآخرين في الحماية وبيعك ما تدافع به عن نفسك الخضوع لإملاءاتهم أو يتركونك مكشوفاً. والاستقلال بغير هذه الشروط يشبه «الحكم الذاتي»، الذي يُعرَّف بأنه «نوع من الاستقلال الذي تمنحه سلطة مشرفة ما تزال تحتفظ لنفسها بسلطة مطلقة على الإقليم المعني». ومعه تكون الدول «محميات تابعة لحكومة أكبر تحميها». وثمة الاستقلال المعرفي المهم، الذي تناضل الأمم الخارجة من الاستعمارات حتى الآن من أجل تحقيقه والتخلص من احتكار قوى الهيمنة لتعريف المفاهيم وإنتاج المعرفة والخطاب الذي يديم هيمنتها. ما تزال المستعمرات القديمة تستهلك المعرفة والتعريفات بشروط المركز الاستعماري –منها، على سبيل المثال، تعريف «الإرهاب» الذي يتبناه الجميع بلا نقاش كما قرره المركز. وإذا قالوا أن الأرض مسطحة فسوف يقبل المستعمَرون معرفياً هذه «الحقيقة» من دون إمكانية الاعتراض أو عرض بديل. ذكرى الاستقلال هي احتفال بالقدر الإضافي الذي تم إنجازه من تخليص المقدرات والأفكار من الاعتمادية. وهي دعوة لمراجعة التقدم أو التراجع على هذا الصعيد. وينبغي أن يتحدد تقدم الأمم في مسيرة الاستقلال بقدرتها على زراعة قمحها وملء خوابيها، وصنع ملابسها، وبناء وإدامة بناها التحتية، ورفاه مواطنيها وكرامتهم وأمنهم الاجتماعي والاقتصادي، وإنتاج ما تحمي به نفسها، وتحرير قرارها السيادي ذهاباً إلى التعامل مع الآخرين من موقع النظير حر الإرادة. في أوروبا الغربية، التي كانت –وما تزال تُعَدّ- «المركز» بسبب مسعاها الاستعماري الذي ما تزال المستعمرات تعاني من إرثه وتحاول التخلص منه، يتحدث المفكرون عن «استقلال» أوروبا عن هيمنة أميركا. ومع كل التميز الاقتصادي والعسكري الأوروبي، يُنظر إلى أوروبا على أنها تعتمد في الحماية على خارجها، فتفقد بذلك جزءا من استقلال الإرادة والقرار. وسيكون المحميون عرضة حتما للابتزاز المالي والعاطفي، ومرهونين في قراراتهم ومشروعاتهم وحركتهم وعلاقاتهم بمصلحة السيد الخارجي الحامي على حساب مصالحهم. الاستقلال شيء يُقاس أيضاً –بل وربما يكون هذا مقياسه النهائي- باستقلال الأفراد، حيث الأمم المستقلة مجموع أفراد أحرار مستقلين. من حيث الاعتمادية، ينبغي أن يكون الأفراد أغنياء عن المساعدات وناجين من الفقر والحاجة ومتمتعين بمردود عملهم الكافي لتغطية حاجاتهم بكرامة. ومن حيث القرار، ينبغي أن يكون خيارهم متحررا مستقلا من الخطابات والإيديولوجيات والإرادات العليا الأحدية المفروضة من أعلى –إلا ما يمس باستقلال الآخرين. سوف يُظلم جوهر الاستقلال ويُخان إذا ما عومل وكأنه حدَث أو لحظة ولم يعامل كعملية واستمرارية ومسعى كما هو. إنه امتداد وتطور، أو سكون وتراجع، يخفُت ويضيء، ويتماهى بمعناه أو يفارقه حتى يكاد يفقد المعنى. والوفاء للاستقلال يعني المراجعة والمزيد من المراجعة، والنضال غير المتوقف من أجل إعزازه وإجلاله –لا بالخطابة، وإنما بالخطط والعِلم وبعد النظر، والإخلاص الوطني لفكرة تحرير القطاعات والموارد والإرادات جميعاً من الاعتمادية سوى على الله والذات، طباقاً لقول البارودي: «خُلقتُ عَيوفاً لا أرى لابن حُرَّةٍ/ لديَّ يداً أُغضي لها حينَ يغضَب». المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان