الاستهلاك السياسي

النقاشات السائدة هذه الأيام في الكثير من المجتمعات العربية، تخفي خلف وجه السياسة المعتاد أسئلة الخيارات الثقافية والاجتماعية العميقة والمهملة. وهو ما يتطلب إزاحة معرفية، وكلاما جديدا حول المسائل القديمة والجديدة معا. بمعنى، إزاحة تنقل هذه النقاشات من حقل الاستهلاك السياسي اليومي، إلى حقل الخيارات الثقافية والاجتماعية. يبدو ذلك في النقاش حول مستقبل الحريات العامة وحدودها، ومستقبل التعليم والمناهج، ومستقبل العمل والإنتاج والمنافسة، ومستقبل شكل الدولة ووظائفها، ودور السوق وعلاقتها بالدولة، وقبل كل ذلك مكانة الدين في المجالين العام والخاص.اضافة اعلان
خلف الصدامات والحروب الأهلية المشتعلة والمنتظرة، تتفاعل أزمة طاحنة، تعبر عن فجوات عميقة في الانتماءات، وعدم نضوج الخيارات الاجتماعية والثقافية، قبل السياسية. وهو ما يكشف زيف إنجازات الدولة الوطنية في العالم العربي، وعدم قدرتها على حسم تلك الخيارات، على الرغم من أن معدل عمر هذه الدولة في العديد من بلدان العالم العربي قد تجاوز نصف قرن وأكثر. وبالفعل، حصلت الدولة الوطنية العربية على اعتراف الجميع في العالم، إلا اعتراف مواطنيها. هل يعني هذا أن ندير دفة النقاش إلى الإصلاح الاجتماعي والثقافي، بدلا من العراك مع الإصلاح السياسي الذي لم يحقق نتائج ملموسة على الأرض؟ أم أن نحفر عن العلاقة بين الملفين، ومن منهما يملك مفاتيح الآخر؟
لا نريد تصديق أن المجتمعات العربية كلما مُنحت حرية أكثر، ازدادت محافظة وردة ثقافية؛ وكلما أتيح أمامها المزيد من فرص التعددية، تراجع لديها التسامح السياسي والثقافي مع الداخل والخارج. فالتحول الديمقراطي في العالم العربي ما يزال يواجه تحديات عميقة، جذورها الفعلية في الحقلين الثقافي والاجتماعي.
الاستهلاك السياسي له طبقات، كما له مستويات أيضا. فالسياسة تحتل المجال العام للمجتمع، وتشغل الناس في مجالهم الخاص اليومي، وتكاد تسيطر على انشغالات الإعلام، وتسرق الفنون والآداب وتوظفها. وبالرغم من أن مجتمعاتنا ربما تكون هي الأكثر استهلاكا للسياسة في العالم، إلا أنها عمليا الأقل ممارسة للسياسة وإنتاجا لها.
الاستهلاك السياسي الشره يعبر عن فقر في العمق؛ في عمق الانتماءات الأولية الاجتماعية والسياسية والدينية الذي يتجاوز فكرة الدولة في تعبيراتها وسلوكها، والمتمثلة في فقر المواطنة وتشتت مستوياتها. وكما تعبر هذه الأزمة الكبرى عن هزيمة مشاريع الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي التي ادعت الأنظمة السياسية الانشغال بتدشينها على مدى العقود الماضية، فإن العديد من الأنظمة يوظف هذه الأزمة لتجديد شرعيته المتهاوية والمستهلكة، ويستثمرها لتعطيل نوايا الإصلاح والتغيير.
قد يقول قائل: إن جذور الأزمة تكمن في صنائع الأنظمة السياسية وفشلها التنموي والسياسي والاستراتيجي، ويجب أن تكون هذه الأزمة أداة للإصلاح والتغيير، أكثر من كونها أداة تستثمرها الأنظمة لاستمرارها وتبرير سطوتها الأمنية. وبالفعل، هذا تحليل وجيه، نجد جذوره العلمية في فكرة فجوة الاستقرار التي تحدث عنها العديد من الباحثين منذ عقد الستينيات من القرن الماضي، وارتبطت بنظرية التحديث. وهي فجوة تظهر في الفترة الفاصلة بين حالة الاستقرار التي يفرضها الاستبداد، ومرحلة التحول نحو الديمقراطية. وفي المسار الطبيعي، قد تتجه الأحداث نحو هذه النتيجة التي تعني مخاض استقرار القيم والانتماءات، وهو للأسف مسار لا يتجه إليه العالم العربي في هذا الوقت.
السياسة تحتل كل شيء في أفقر مجتمعات العالم قدرة على المشاركة أو التعبير السياسي، ووسط أكثر نظم العالم بعدا عن السياسة وإدارة المصالح. وفيما لا توجد خميرة ثقافية-اجتماعية فاعلة، فلن يقوى الناس على أكل خبز السياسة. وهذا ما يفسر جانبا من الغربة بين السياسة الفعلية والناس، وما يؤكد الحاجة إلى إعادة طرح السؤال الثقافي الاجتماعي باعتباره العمق الحقيقي لأسئلة الخبز والسياسة معا.