الاعتداء على المعلمين.. عيب!

كنت أتساءل عما إذا كان الاعتداء على المعلمين ظاهرة عالمية أم محلية. وقادني بحث صغير في الإنترنت إلى أن الظاهرة موجودة عالمياً، وموصوفة، وحولها الكثير من الأدبيات والتحليلات الجادة. لكنها شيء جديد على مجتمعنا بلا شك. وعلى سبيل المثال، لم أشاهد أو أسمع خلال 12 سنة من حياتي المدرسية بشيء مثل الذي يحدث اليوم. وإذا حدث احتكاك بين طالب ومعلم، فإنه لم يكن يصل إلى حد اعتداء الطالب على معلمه بالضرب. ولم يكن الأهل ينحازون غالباً إلى رواية ابنهم، على الأقل من باب احترام موروث مستقر للمعلم وفضله. ولم نشاهد أناساً يستهدفون المعلمين والمدارس فرادى أو جماعات على طريقة الرعاع، كما يحدث اليوم. بل لم يكن لدينا تكوينات اجتماعية يمكن تمييزها بوضوح على أنها "رعاع" مثل اليوم، بالرغم من بساطة أحوال الناس وقلة تعليمهم آنذاك. كانت المشكلات تُحل في غرفة المدير ببساطة. لكن ذلك تغير.اضافة اعلان
بالطبع، رأينا العصي في أيدي المعلمين في تلك الأوقات، وشاهدنا أو تعرضنا للعقاب البدني وبعض العنف. لكن المناخات في المدارس لم تكن عدائية بشكل عام، ولم تكن مخرجات العملية التعليمية -حتى بتلك الكيفيات- بائسة كحالها الآن. وأتصور أن خريجي المدارس الذين سبقوا جيلنا المتوسط كانوا أفضل تعليماً منا أيضاً، ولو مع سلطة الأستاذ المطلقة في أيامهم. كان الأهل البسطاء المحرومون من التعليم يعهدون بأبنائهم إلى الأستاذ كأمانة، ويصرون على شيء واحد كما يبدو: أريد ابني متعلماً جيداً ومؤهلاً بما يمكِّنه من شق طريقه في الحياة بالعلم. وكان الابن يتعلم احترام أستاذه مع تعلم الكلام.
لا أدافع عن المعلمين القساة، وليس بأي حال عن العصي والعنف ضد الطلبة؛ تماماً مثلما أزدري من القلب اعتداء الطلبة -وأقاربهم- على المعلمين بالضرب والبلطجة. وفي الدول الأخرى التي تلاحظ فيها الظاهرة، تقوم جهات علمية نفسية وسلوكية وبحثية بتقصي الأسباب والنتائج، وتنشر مواد يجدر بمسؤولينا الاستفادة منها. وعندنا أيضاً، يبدو أن هناك شيئاً اضطرب في علاقات الانضباط المدرسي، وفي مختلف العلاقات على يبدو، لمختلف الأسباب والتغيرات. ولذلك، إذا لم يعد يحكم هذه العلاقات عرف، فإنه ينبغي أن يحكمها قانون.
يجب التوافق على آليات واضحة -لا يكون الضرب من بينها- والتي يسترشد بها المعلمون لضبط الصفوف بطريقة تكفل سوية العملية التعليمية. فمع كل التقدير للمعلم ووظيفته، ليس المعلم إنساناً معصوماً عن الخطأ وسطوة المزاج. وفي الحقيقة، يتعامل المعلمون مع مئات مزاجات الطلبة من أعمار مختلفة، وخلفيات تربوية أسرية، وسلوكات يصعب أحياناً أن تُحتمل. وينبغي أن تترافق المرونة المفترضة بالمربي مع وسائل معروفة لمنع الطلبة من التجاوز.
في المقابل، يجب أن يتبع أولياء الأمور طرقاً قانونية أو إجرائية معروفة للتعامل الحضاري مع تجاوزات المعلمين وأخذ حق أبنائهم من دون استخدام العضلات والعصي والأسلحة. ويجب الضرب بقوة على أيدي المعتدين من هذا النوع، لأنه لا عدد للأضرار والتبعات التي يخلفونها على مظهر التعليم وجوهره بممارسة الهمجية أمام التلاميذ وتشويش نظرتهم إلى معلميهم ومدارسهم.
تندرج الاعتداءات على المعلمين في سياق أوسع من الانفلات الأخلاقي والسلوكي الذي ينشر العنف. فهناك إلى جانبها الاعتداءات على الأطباء والممرضين، بل ورجال الأمن في بعض الأحيان. وإذا أضفنا ذلك إلى المشاجرات اليومية والعائلية والانفلات السلوكي الظاهر، فإننا مطالبون بالشروع على الفور في تعقب الأسباب بجدية ومعالجة الجذور. ومن المفارقات أن جزءاً مهماً من الحل سيبدأ حتماً من المدرسة التي تؤسس بلا شك معظم الوعي الأخلاقي والسلوكي الاجتماعي. ولذلك، يجدر أن تستعاد الجلالة لأدوار المدارس والمعلمين، وتضييق كل المساحات على أسباب الاختلالات هناك، من حيث سوية المدارس وأوضاع المعلمين والمناهج المدرسية وغرس عقلية التسامح والتفاوض.
حسب نقابة المعلمين، بلغ عدد الاعتداءات على المعلمين 101 حالة منذ مطلع العام الحالي وحتى قبل أيام، بينما سُجلت في العام الماضي 56 حالة من هذا النوع. ويعني هذا التضاعف السريع أن الوجهات ليست مبشرة. وفي ذلك جرس إنذار آخر بالخطر المحدق بالمنظومة السلوكية العامة وضياع الحدود بين الأشياء. هل ما تزال هذه الظاهرة ومثيلاتها عاجزة عن إقناع المعنيين بضرورة مراجعة كل شيء؟!