الاعتماد على الذات: مسرب إجباري

لقد برعت الدولة الأردنية في إدارة الأزمات التي تعرضت لها خلال العقود الماضية سواء كانت هذه الأزمات سياسية أم اقتصادية بغض النظر عن مصدر هذه الأزمات، فقد خرجت في كل أزمة أقوى مما كانت عليه بالسابق. كما في أزمة كورونا، كانت الدولة في كل أزمة تستخدم كافة مصادرها المادية والمعنوية في مجابهة تلك الأزمات.اضافة اعلان
كما في الأزمات كذلك بالسلم، فأدارت الدولة عملية البناء والتنمية وأنجزت عملية العصرنة بكل اقتدار وقدمت نموذجًا عربيًا للدولة الحديثة وصمدت بوجه أقسى الظروف. بالرغم من أن الأردن لم تكن دولة شمولية إلا أن الدولة كانت تلعب دورًا فاعلًا في إدارة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والشروع بعملية التحول للنظام الرأسمالي تحت ضغوط المؤسسات الدولية، تغير دور الدول وحصلت عملية انسحاب تدريجي في إدارة العملية الاقتصادية وظهرت بالأردن “نخبة” اقتصادية توازيها “نخبة” سياسية اهتمت بمصالحها أكثر من اهتمامها بالمصلحة العامة وكان ذلك بالضرورة على حساب الإنجازات السابقة. ونتيجة لذلك تراجعت قدرة الدولة على الاستمرار لا بل المحافظة على منجزاتها التنموية وتراجع الاقتصاد الأردني (ولأسباب خارجية أيضًا) وازداد الفقر والبطالة وأظهرت النخبة الاقتصادية عجزهاعن تقديم نموذج اقتصادي تنموي وازدادت الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء وتراجعت قدرات الطبقة الوسطى نتيجة للسياسات الاقتصادية الليبرالية تحت رعاية صندوق النقد الدولي.
أزمة كورونا أظهرت عناصر قوة الدولة الأردنية بإدارتها بنجاح قل نظيره، ولكن بعد عودة الحياة التدريجية فإننا قريبًا سوف نواجهه الاستحقاقات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة والسابقة لها أيضًا. الانشغال الآن هو في كيفيى استثمار عناصر القوة بالدولة الأردنية التي تجلت في إدارة أزمة كورونا لمواجهة التحديات المزمنة وإحداث نهضة اقتصادية و سياسية شاملة.
بالطبع لا يسعنا إلا أن نتفاءل بالمستقبل وأعتقد أن المفتاح للنهضة الشاملة هو شعار الاعتماد على الذات الذي أطلقه الملك قبل ثلاث سنوات تقريبًا وتم تبنيه من قبل هذه الحكومة تحديدًا، ولكن بالمقابل فلم يتم وضع خطة أو ترجمة عملية بكيفية إدارة التحول من الاعتماد على المساعدات العربية والدولية للاعتماد على الموارد الوطنية. هناك شروط يجب أن تتوفر لتحقيق هذا الشعار حيث أن التحول لن يحدث تلقائيًا بل يحتاج إلى إرادة وخطة وهذا يتطلب أدوات غير تقليدية وتفكيرا خارج الصندوق أو المعهود.
إن تحقيق هذا الشعار لا يمكن أن يتحقق بدون إعادة النظر بدور الدولة في المرحلة القادمة والذي يتطلب دورًا فاعلًا ونشطا في قيادة الدفة الاقتصادية والاستخدام الأمثل لإمكانيات الوطن وهي كبيرة. ومن المسائل التي يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار هي التالية:
أولا: استغلال أو الاستفادة من الموارد المالية الداخلية وهي ليست قليلة سواء كانت مع المواطنين أو القطاع الخاص وضمن تصور محكم وواضح يعود على الجميع بالفائدة.
ثانيًا: الاستفادة من الموارد البشرية الهائلة في الأردن والذي يتطلب إعادة النظر في دور التعليم خاصة العالي منه ودعمه وتطويره ليصبح محركًا لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال البحث العلمي.
ثالثًا: التركيز على عدد محدد من القطاعات (دون إهمال الأخرى) وخاصة الزراعة والصناعة والصحة وتكنولوجيا الثورة الصناعة الرابعة.
رابعًا: الاستثمار في الموارد الطبيعية الكثيرة والمتنوعة والتي لا زالت غير مستغلة لحد الآن والتي بحسب الخبراء تشكل ثروة كبيرة متنوعة وغير مستغلة والتي يمكن أن تكون عماد عملية التصنيع والنمو الاقتصادي.
خامسًا: لا بد أن يكون القطاع الخاص هو الركيزة الأساسية لعملية التحول والاعتماد على الذات ويجب أن يكون شريكًا فاعلًا والذي قد يتطلب تغييرا في نظرته ومنظوره وخاصة تبني هذا المفهوم والعمل على تحقيقه.
سادسا: العمل ضمن مبادئ الحوكمة الرشيدة والشفافية والكفاءة الإدارية و المشاركة السياسية.
إننا مقبلون على مرحلة حاسمة إقليميًا ودوليا ومحليًا وهناك تحديات ولكن أيضًا فرص ولمواجهة التحديث وانتهاز الفرص لا بد من حدوث تحول إستراتيجي في كيفية إدارة الدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق الاعتماد على الذات الذي نادى وينادي به الملك، الاعتماد على الذات ليس ترفا بل أصبح مسربًا إجباريًا ويجب الشروع في حوار وطني شامل حول معانيه وكيفية تحقيقه.