الاعتماد على السلام جُمِّد

هآرتس

عاموس هارئيل  7/9/2018

اتفاقيات أوسلو التي تحل في الاسبوع القادم ذكرى الـ 25 سنة على توقيعها، انهارت في المقام الاول بسبب أنها لم تنجح في أن توفر للإسرائيليين مستوى الامن الشخصي، الذي وعدتهم به حكومة رابين بيرس اثناء التوقيع عليها. سلسلة أحداث قاتلة مثل المذبحة التي نفذها باروخ غولدشتان ضد المصلين المسلمين في الحرم الابراهيمي، وموجة العمليات الانتحارية لحماس في الحافلات، واغتيال يتسحاق رابين، اغرقت حلم أوسلو بالدم والنار والدخان. كلما زادت العمليات قل التأييد للاتفاقات ومعها تأييد الجمهور الإسرائيلي لإخلاء مناطق اخرى، التي بدونها لم يكن بالإمكان التوصل إلى اتفاق نهائي.

اضافة اعلان

في العام 2000 عندما بذل كلينتون وإيهود باراك جهودا اخيرة لاعادة العملية إلى مسارها في مؤتمر كامب ديفيد وبعد ذلك في مفاوضات طابا، حدث انفجار أكبر – الانتفاضة الثانية. والأمل دفن عميقا أكثر تحت الانقاض. حوالي 1500 إسرائيلي وأكثر من 7 آلاف فلسطيني، قتلوا في السنوات التي مرت منذ مراسيم التوقيع على العشب الأخضر في البيت الابيض. هكذا تلاشت الثقة بين الطرفين ودمرت تقريبا كل احتمالية للعودة والدفع بالمفاوضات.

مقالات الرثاء من اليسار التي تنشر من حين لآخر في "هآرتس" تميل حسب رأيي إلى التقليل من الاهمية الكبيرة للعنصر الامني في الاتفاق. رابين اختار مسار أوسلو بدرجة غير قليلة من الشك الشخصي، بسبب ترابط عدة اسباب. لقد ادرك، ربما متأخرا، الضرر الاخلاقي الذي يسببه استمرار الاحتلال للجيش الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي. "الجيش يجب أن يتوقف عن كونه جيش احتلال والعودة ليكون جيش الدفاع"، قال لمراسلين بعد سنة تقريبا من توقيع الاتفاق الأول. في نفس الوقت رابين شخص نافذة فرص استراتيجية – بعد انخفاض التأثير الروسي في الشرق الأوسط، قبل ازدياد قوة إيران، وأمل بقطف الثمار: نهاية الانتقاد الدولي لإسرائيل واحتمال التطبيع مع عدد من الدول العربية.

ولكن ما سوقه رابين للإسرائيليين، الذين في معظمهم أيدوا الاتفاق في السنوات الأولى، كان بالاساس وعد بهدوء طويل المدى. المقاتلون لن يحتاجوا إلى الركض ثانية وراء الأطفال الذين يرشقون الحجارة في قصبات المدن ومخيمات اللاجئين، والمواطنون سيتوقفون عن الخوف من حاملي السكاكين، تهديد الارهاب الرئيسي في بداية التسعينيات. قتل الفتاة هيلانا راف في بات يام وصف كحدث اولي في الطريق إلى السقوط الذي تلقاه يتسحاق شمير امام رابين في انتخابات 1992.

ثمار العملية بدأت في الظهور تدريجيا وبصورة صغيرة، من فتح مكاتب لشركات اجنبية توقفت عن الخوف من المقاطعة العربية وانتهاء ببدايات علاقات مع دول عربية اخرى. ولكن في نفس الوقت، في ربيع 1994 اندلعت موجة عمليات انتحارية، بداية كرد على مذبحة الحرم الابراهيمي. الاتهامات المزدوجة اليسار يعيد مناطق من الوطن ويتخلى عن أمن المواطنين لعمليات حماس – مهدت الارض لقتل رابين بعد سنة ونصف تقريبا.

من هنا فصاعدا لم يكن زعيم إسرائيلي يثق بحلم أوسلو بدرجة تمكن من التقدم نحو اتفاق دائم. بنيامين نتنياهو انسحب من مناطق في الضفة تحت ضغط أميركا، في اتفاق الخليل وفي اتفاق واي بلانتيشن (الامر الذي يحاول أن يتم نسيانه الآن)؛ اريئيل شارون انسحب بشكل أحادي الجانب من قطاع غزة ومن شمال السامرة. ولكن مسيرة أوسلو نفسها تجمدت.

هذا حدث بالاساس لأنه حسب عدد كبير من الإسرائيليين ترسخت معادلة بسيطة وواضحة: في كل مرة تنسحب فيها إسرائيل من منطقة صغيرة فإنها تتحول إلى خشبة قفز مستقبلية لعمليات إرهابية ضدها. اخلاء مدن الضفة في اتفاقات أوسلو في 1995 وقرار باراك الانسحاب من المنطقة الامنية في جنوب لبنان في أيار 2000 والانفصال عن قطاع غزة في 2005، لم يجلب أي من هذه العمليات السلام والازدهار (رغم أنه يمكن بالتأكيد الادعاء أن العبء الامني المرتبط بالبقاء في هذه المناطق كان من شأنه أن يكون أكبر). 

العمليات وعلى رأسها عشرات العمليات الانتحارية في الانتفاضة الثانية كانت هي الصدمة التي شكلت المجتمع الإسرائيلي في العقود الاخيرة. لقد حددت مرة تلو الاخرى مصير الحملات الانتخابية. ومثلما كتب هنا بعد انتخابات 2015، نتنياهو يفوز المرة تلو الاخرى في الانتخابات لأنه نجح في أن يثبت صورته كقائد امني مسؤول، الذي لا ينجر إلى تنازلات خطيرة للعرب، ومن جهة اخرى أيضا لا يركض نحو حروب زائدة (خلافا لصورته في المجتمع الدولي).

لقد كان لفشل أوسلو بالطبع مساهمة إسرائيلية بارزة. إن شرك 22 عملا في هذه السنين ساعات إضافية، عندما سارت الأمور بشكل جيد، إسرائيل لم تسارع إلى التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين ("لا توجد تواريخ مقدسة"، قال رابين)، عندما تجدد الارهاب قالت إنها لن تخضع في أي يوم تحت التهديد، وطوال الوقت واصلت إسرائيل في استيطان الضفة والاحياء المقدسية شرقي وشمال الخط الاخضر. اكثر من 800 ألف إسرائيلي الذين يعيشون الآن خلف الخط الاخضر يصعبون جدا التوصل إلى اتفاق دائم، حتى لو كانت اغلبيتهم الحاسمة موجودة في الاحياء المقدسية وفي الكتل الاستيطانية.

قبل حوالي شهرين تحدثت مجلة "نيويوركر" عن القلق الذي اظهره زعماء ادارة اوباما عندما نظروا في 2015 إلى الخريطة التي تجسد إلى أي درجة نجحت المستوطنات والبؤر الاستيطانية في القضاء على خيط تواصل جغرافي للدولة الفلسطينية العتيدة. كان هذا استيقاظ متأخر جدا. ضباط الادارة المدنية شخصوا التوجه الكامن خلف مد "اصابع" المستوطنات في الضفة شرقا قبل سنوات كثيرة من ذلك. دلائل على الخطة الكبير يمكن ايجادها في وثائق لواء الاستيطان حتى في التسعينيات. وكما سبق وحلل الوف بن، ("خطاب بار ايلان الحقيقي"، حزيران 2016) يمكن الافتراض أن الحلم الحقيقي لنتنياهو هو شن حرب استنزاف دبلوماسية وأمنية هدفها نهاية آمال الحركة الوطنية الفلسطينية.

الواقع الأمني في الضفة استقر في السنوات الاخيرة، بفضل التنسيق الأمني الوثيق بين إسرائيل وقيادة السلطة، التي ترى في إرهاب حماس تهديدا ملحا أكثر على بقائها من استمرار الاحتلال. العلاقة بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة مهلهلة أكثر: مرة كل بضع سنوات وعندما يصبح الواقع المدني في القطاع غير محتمل أو عندما تخطئ حماس في تحليل مجال صبر إسرائيل، تندلع مواجهة عسكرية دموية لعدة اسابيع. 

ولكن في كل مرة يجري فيها الحديث عن مبادرة سلام جديدة – الاخيرة هي "صفقة القرن" التي تعد بها إدارة ترامب – فقد تعلم الخبراء والمحللون بأن المراهنة المضمونة هي الحفاظ على التشاؤم. زعماء الطرفين، رئيس الحكومة نتنياهو ورئيس السلطة محمود عباس، لا يؤمنان بالاتفاق الدائم، وبالتأكيد ليسا مستعدين لدفع ثمن التنازلات المطلوبة منهما من اجل، ربما التوصل اليه. عندما يحدث تغيير (اذا حدث) فمن المعقول أن المخطط الذي سيكون على الاجندة ثانية سيكون مشابها للمخطط الذي وضعته ادارة كلينتون في ايامها الاخيرة في نهاية سنوات الالفين. ولكن حتى حدوث ذلك ربما سيسفك المزيد من الدماء في الشرق الاوسط.