الاقتراب من الموت

انقلبت السيارة التي كنت أقودها على الطريق الصحراوي بين عمّان والعقبة، قبل بضعة أسابيع، في لحظة سهو. وطلب مني الرجال الذين تجمهروا حولي، حامدين الله على السلامة، أن لا أتحرك حتى يحضر الدفاع المدني، لمّا رأوا الضرر الذي أصاب السيارة. لكني كنت -والحمد لله- بخير، إلا من بعض الرضوض والجروح البسيطة.اضافة اعلان
في لحظات كتلك، يقترب فيها الإنسان من الموت، يحاول بداية إنكار أن ما يحدث معه يحدث فعلاً. بعدها، يحسب أن الحياة انتهت، ويفكر –في ثوان- كيف سيتصرف إزاء "حقيقة" كتلك. وقد أكد لي أحد الأصدقاء، ممن مروا بتجربة مشابهة، أن المرء يمر بتلك المشاعر كلها، ما يبدو أنه أمر طبيعي وبشري. السؤال المهم، بل الأكثر أهمية، هو: كيف يفكر المرء بعد مروره بمثل تلك التجربة؟!
أظنها تجربة "مثالية" ليختبر المرء مدى قناعته بأفكاره وآرائه، وتمسّكه بها؛ فقد يعلن الإنسان أفكاراً من دون اقتناع كامل بها، مستنداً إلى ظنه بأن الحياة طويلة، وبأنه يمكنه أن يتراجع عنها مستقبلاً. لكنه حين يمر بتجربة تعرّفه أن الحياة قد تنتهي في لحظة، وأن أمور الدنيا وقضاياها وأشياءها لا ضمانة فيها، فإنه لن يعود إلى إعلان ما لا يؤمن به أبداً! بل إن مثل تلك التجربة إنما تمكّن الإنسان من فهم أعمق لمغزى الحياة، مفاده أنها لا تستحق أن يقول أو يفعل إلا ما هو مقتنع به فعلاً، لأن أياً من المصالح الدنيوية لا قيمة لها حقاً.
وإذ سرّني أنني ما أزال واقفاً على قناعاتي، الفكرية والحياتية، بعد مروري بهذه التجربة المؤلمة على الصعيد النفسي، فقد استذكرتُ ما كنت شاهدته مراراً على التلفزيون من برامج وثائقية عن "تجارب الاقتراب من الموت"، وفيها روى أشخاص ما شعروا به أثناء عمليات جراحية دقيقة، أو حوادث صعبة، من أنهم غادروا إلى الفضاء، وشاهدوا الأرض من بعيد، ثم عاودوا الهبوط بسرعة إلى مكان الحادث، أو غرفة العمليات، في صورة تخيّلية لخروج الروح ثم عودتها، بينما كانت قلوبهم في الأثناء قد توقفت عن النبض، بحسب رواياتهم عن ألسنة أطبائهم، في محاولة لتأكيد أنهم غادروا الحياة فعلاً في لحظات، ثم رجعوا إليها.
أصحاب تلك التجارب تحدثوا عن تغيّر فهمهم للحياة، واقترابهم من مبادئ جديدة بعدها، قوامها الاستخفاف بجدوى حياة لا "قضية" فيها، أو موقف، أو مبدأ، ثم الاستخفاف بجدوى الصراع بين البشر، واستصغار المشكلات التي تنشأ بينهم، ودعوتهم إلى بناء الحياة البشرية على أساس المحبة والود والسلام والتفاهم. وهو كله -في جوهره- ما دعت إليه الأديان في صيغتها البسيطة، من دون التعقيدات التي أدخلها عليها معتنقوها، فحوّلوها إلى صيغ أيديولوجية متحجرة تستدعي الصراع مع الآخرين، ونبذهم واستباحتهم وتدميرهم وقتلهم، مما يشهد عليه التاريخ البشري في كل العصور.
الأسبوع الماضي، نقلت صحيفة "الرياض" السعودية نتائج دراسة نفذّها باحثون في جامعة ميسوري الأميركية، عن آثار التفكير في الموت، جاء فيها أنه قد يساعد على إعادة ترتيب الأهداف والقيم لدى الإنسان، والاستعداد لمساعدة الآخرين، والتحفيز على عيش حياة أفضل. والنتائج هذه تنسجم مع ما يخلص إليه من يمرون بتجارب صعبة تفرض عليهم الإحساس بالموت، فضلاً عن التفكير فيه، وخلاصتها أن علينا إدراك "الكليّات"، والتصرّف في إطارها، وهي التي ننساها في غمرة انشغالنا بروتين الحياة، وتفاصيلها البائسة.

[email protected]