الاقتصاديون في الأردن: بين مدرستي "المياه العذبة" و"المياه المالحة"!

 شهد التاريخ الاقتصادي على مر العصور ظهور العديد من المدارس الفكرية، بعضها أفَلَ نجمها، كمدرسة التجاريين، وبعضها الآخر يصلح لكل زمان ومكان رغم محدودية تأثيرها في الوقت الحاضر، كالمدرسة الاقتصادية الاسلامية. وقد أسهمت التطورات والأحداث الاجتماعية والمادية والاقتصادية في بروز بعض المدارس وتلاشي تأثير بعضها الآخر.إذ لعبت الثورة البلشفية، على سبيل المثال، دوراً فاعلاً في بروز المدرسة الماركسية التي تلاشى دورها، أو كاد، بعد انهيار جدار برلين. أما الكساد الكبير، الذي ظهر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، فقد أسهم في ظهور ورواج أفكار المدرسة الكينزية.

اضافة اعلان

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية برزت مدارس جديدة كان من أبرزها مدرسة التقليديين الجدد التي تؤمن، بشكل عام، بالحرية الاقتصادية. وقد تفرّعت عن هذه المدرسة مدارس أخرى بعضها يؤمن بكفاءة السوق ويعارض تدخل الدولة في الاقتصاد، وبعضها كان أقل ليبرالية من ذلك. أما المدرسة الكينزية فقد أدخل عليها الاقتصاديون الجدد بعض التعديلات في الفرضيات والمنهجيات ما أدى الى ظهور مدرسة سُميت بالكينزية الجديدة!

ونظراً لتركّز المدارس الاقتصادية الجديدة في أميركا، من حيث مراكز الأبحاث والجامعات، فقد ظهرت لها تسميات جديدة غلب عليها الطابع الجغرافي! فهناك الآن ما يعرف بمدرسة "المياه المالحة" نظراً لوجود أقطابها في جامعات تقع على الشاطئين الشرقي والغربي للولايات المتحدة. وتنحاز هذه المدرسة لأفكار المدرسة الكينزية، حيث تؤكد على أهمية الدور الحكومي في الاقتصاد، من حيث تنظيم الأسواق، وفرض الضرائب، والإنفاق العام، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي ومواجهة الدورات الاقتصادية التي ترى هذه المدرسة أنها نتاج لعدم كفاءة الأسواق. ومن أبرز منظري هذه المدرسة الحائزان على جائزة نوبل في الاقتصاد بول كروغمان وجوزيف ستيجليتز، حيث عرف عن الأول معارضته الشديدة لسياسات الإدارة الأميركية السابقة، وعن الثاني انتقاده الشديد لسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين.

ومقابل ذلك، هناك ما يسمى بمدرسة "المياه العذبة" التي يتواجد منظّروها في جامعات قرب البحيرات العظمى في الولايات المتحدة. ومن أبرز أقطاب هذه المدرسة الراحل ميلتون فريدمان وروبرت لوكاس، وكلاهما حاصلان على جائزة نوبل في الاقتصاد أيضاً. وتؤمن هذه المدرسة بكفاءة السوق والدورات الاقتصادية وتعارض تدخل الحكومة لأن من شأنه التأثير سلباً على هذه الكفاءة.

ورغم تركّز هاتين المدرستين اليوم في الولايات المتحدة، من حيث مراكز الفكر والبحث والأقطاب والمنظرين، فإن اقتصاديي العالم، مع بعض الاستثناءات، يتبعون أفكار ومبادئ إحداهما في أفكارهم وسياساتهم وتحليلاتهم، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا!

وعند محاولة تصنيف الاقتصاديين في الأردن، بما في ذلك صناع القرار والكُتاب والصحافيين، حسب هاتين المدرستين، نجد مفارقات طريفة! إذ نجد أن صناع القرار الذين يتم تصنيفهم حسب التعريف الأميركي بأتباع "مدرسة المياه المالحة"، وحسب التعبير الأردني بـ "التقليديين أو المحافظين" كانوا هم السباقين إلى تطبيق سياسات رفع الدعم وانسحاب الحكومة من النشاط الاقتصادي وتحرير الأسواق وتنفيذ عمليات التخاصية!. وعلى النقيض من ذلك نجد أن من يفترض أنهم من أتباع مدرسة "المياه العذبة"، حسب التصنيف الأميركي، أو من يطلق عليهم وصف "الليبراليين" حسب التصنيف المحلي، قد أقروا سياسات ونفذوا برامج ومشاريع أسهمت في توسيع دور الدولة في الاقتصاد، من خلال الإنفاق على مشاريع البنية التحتية كالطرق والسدود والمدارس والمستشفيات، إلى جانب تنفيذ برامج محاربة الفقر وتمكين المجتمعات المحلية والفئات المهمّشة!

أما في خانة الصحافيين والكُتاب فنجد أن الصورة أكثر ضبابية وإثارة للاستغراب! إذ كان هناك تبدل واضح في المواقف أدّى إلى تغيير الخنادق حسبما تظهره الكتابات والآراء والتعليقات! فتارةً نجدهم يؤيدون سياسات "مدرسة المياه العذبة"، إذ يمتدحون اقتصادات السوق وسياسات التخاصية ورفع الدعم، متفقين في ذلك مع مبادئ فريدمان وأقرانه! وتارةً أخرى نجدهم يؤيدون سياسات "مدرسة المياه المالحة" ولا يدّخرون جهداً في الدعوة الى تدخل الحكومة المباشر في السوق إما من خلال السياسات المالية أو النقدية أو التجارية! ويحاولون تبرير مواقفهم بشتى السبل التي لا تخرج قيد أنملة عن مبادئ كروغمان وزملائه! والأغرب من ذلك كله أن تغيير الخنادق قد يحدث خلال فترة قصيرة جدا قد لا تتعدى الأسابيع، أو الأشهر على أبعد تقدير!

وفي الوقت الذي نستطيع فيه تبرير مواقف صناع القرار وندّعي أنها قد لا تنبع بالضرورة من إيمانهم بسياسات "مدرسة المياه العذبة" أو سياسات "مدرسة المياه المالحة" بقدر ما تنبع من البراغماتية في التعامل مع الواقع، فإننا نجد صعوبة في فهم تغيير خنادق الكُتاب والصحافيين بين المدرستين، خصوصاً وأن هذا التغيير، كما أسلفنا، يحدث بشكل متكرر وخلال فترات زمنية قصيرة! إلاّ إذا كانت ضرورات كسب العيش، أو تعبئة الأعمدة الصحافية كيفما اتفق، أو أن اتّباع نهج "كسر مزراب العين" هو المحرك الأساسي وراء ذلك كلّه!

وأخيرا فإننا نؤكد أن هذا التحليل لا يرمي إلى التجني على أحد، لا سمح الله، وإنما يهدف إلى بيان واقع "الفكر الاقتصادي" في الأردن في ضوء ما يكتب من آراء وتحليلات، أو ينفذ من برامج وسياسات. 

[email protected]