الاقتصاد و"مد البحر" وحقوق الإنسان


اعتاد خبراء السياسات الاقتصادية استخدام مقولات ذات طابع أدبي للترويج لبعض السياسات التي يتبنونها ويدافعون عنها، ومن بين المقولات الرائجة التي تم استخدامها على نطاق واسع خلال العقود الماضية عبارة "المد الصاعد يرفع كل القوارب"، في إشارة الى أن أي تحسن عام في الاقتصاد الكلي للدولة أو العالم، سيؤدي بالضرورة الى تحسين أوضاع جميع أفراد ومكونات المجتمع.اضافة اعلان
ذكرني بهذه العبارة العزيز "جواد عباسي"، في معرض تعليقه على جملة قصيرة وضعتها على صفحتي الخاصة على "فيسبوك" الأسبوع الماضي، أشرت فيها الى أن الاقتصاد ينبغي أن يكون في خدمة الناس وليس العكس.
إلا أن هذه المقولة ليست بالضرورة صحيحة، فهنالك العديد من المؤشرات التي تؤكد أن المد الصاعد يستفيد منه البعض فقط، ويقابلها مقولة أخرى ليست أقل شيوعا واستخداما تفيد أن "المد الصاعد يرفع اليخوت فقط"، في إشارة الى أن تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي لا يستفيد منها الجميع بل فئة محدودة من الناس الممكنين للاستفادة منها، وهنالك آخرون يغرقون بسبب ارتفاع المد في البحر.
ففي ظل غياب سياسات اقتصادية واجتماعية تعمل على تمكين أعضاء المجتمع كافة من حقوقهم الإنسانية الأساسية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها، بالتأكيد سيغرق الكثير بسبب هذا "المد"، وهذا للأسف ما يحصل على أرض الواقع عالميا، حيث تفاقم التفاوت الاجتماعي بشكل صارخ وغير مسبوق؛ إذ إن أغنى 26 شخصاً في العالم يملكون ما يعادل ثروة نصف سكان العالم، حسب التقرير الذي أصدرته الأسبوع الماضي مؤسسة "اوكسفام" المختصة بمكافحة الفقر والترويج للعدالة الاجتماعية.
ولا يقتصر الأمر على التفاوت الاجتماعي بين الأفراد، لا بل ينسحب على التفاوت الكبير بين الدول، فبسبب السياسات الاقتصادية غير العادلة "النقدية والمالية والتجارية" التي تفرضها العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية والدول الغنية على الدول الفقيرة، أخذت فجوة التفاوت بين الدول تتسع عاما بعد آخر.
وعلى المستوى المحلي، ولتمكين مكونات المجتمع الأردني كافة من الاستفادة من عوائد الاقتصاد ومساراته والمستقبلية، هنالك ضرورة لأن تعتمد الحكومات الأردنية مؤشرات حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها أطرا ومبادئ توجيهية لمختلف سياساتها الاقتصادية.
ففي ظل تطبيق سياسات مالية غير عادلة (مثال على غياب العدالة عن السياسات)، حيث الارتفاع الكبير في الضرائب غير المباشرة (الضريبة العامة على المبيعات والضرائب الخاصة والرسوم الجمركية) وانخفاض الضرائب على الدخل، وغياب التصاعدية عنها، سيؤدي ذلك بالضرورة الى استفادة فئات محدودة فقط من عوائد الاقتصاد.
الى جانب ذلك، فإن رسم السياسات العامة استنادا الى بعض الفرضيات الوهمية التي ترى أن شروط العمل الضعيفة من شأنها أن تحفز الاقتصاد، وتشجع الاستثمارات العربية والعالمية على التوسع، سيؤدي بالضرورة الى تعميق التفاوت الاجتماعي، وبالتالي سيؤدي الى إضعاف الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ما سيؤدي الى الإضرار بمصالح مكونات المجتمع كافة؛ فقراء وأغنياء، والتجارب في المنطقة والعالم التي تثبت ذلك عديدة.
خلاصة القول، إنه وفي غياب سياسات عادلة تستند الى تمكين مكونات وأفراد المجتمع كافة من حقهم في التعليم والصحة بمستويات جيدة، وتوسيع نطاق الحمايات الاجتماعية والضمان الاجتماعي وشروط العمل العادلة والمرضية، فإن حالات الانتعاش الاقتصادي وتحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي سوف يستفيد منها عدد محدود من البشر، وستؤدي بالضرورة الى تدهور أوضاع قطاعات واسعة من المجتمع.