الالتقاء والافتراق المذهبي

موفق ملكاوي

قدمت إلى العاصمة عمان من بيئة راجت فيها العديد من بذور التشيّع في ما مضى، خصوصا قبل تبيان أننا من أهل السنة والجماعة.

اضافة اعلان

في نهاية السبعينيات، بدأت عيناي تتفتحان على ما حولي من صور وأفكار ورؤى، وكان الإمام علي بن أبي طالب حاضرا بقوة في المشهد القروي الصغير في أقصى الشمال الأردني، حيث تجمعات القرى الفلاحية. كانت العجائز تشد من أزر الناس في مواجهة الخطوب بالقول: "يا علي". وحين تريد أن تدعو لأحد بالتوفيق، تقول: "روح.. الله وعلي معك".

أما قبة الإمام الخضراء، والذي ينتسب للولي عبد القادر الكيلاني، أو الجيلاني، فقد كانت محج طالبي الحاجات، يبثون حاجاتهم، ويتضرعون إلى الله أن يلبيها لهم. كان وعيهم الديني الفطري أبعد من التفكير بالشرك، فهم، مثلا، لم يشكوا أبدا في أن الله هو القدير وملبي الحاجات، وأنه لا يمكن لأحد أن ينازعه هذه القدرات. ولكن، كان هناك تقدير خاص وتبجيل لمكانة علي بن أبي طالب، وآل البيت، بحيث إن القرويين وضعوهم في منزلة لا يقترب منها أحد.

كان المشهد خليطا من بذور تشيّعية، وأخرى تتخذ شكل التصوّف، خصوصا بـ"الزاوية" التي تشتعل بالنشاط في أوقات معلومة من العام. ومسيرات الصوفية التي ترفرف فيها الأعلام الخضراء لرجال يعتقدون أنهم قادرون على فعل أي شيء، متخذين من عبد القادر الكيلاني وأحمد الرفاعي قدوة لفك طلاسم وغموض الأمور، وأحيانا لفك استغلاقها ومستحيلاتها.

في الطفولة، تعلمنا أنه ما من شيء يعادل حب النبيّ وآله، وكبرنا مع هذا العلم والفهم. كان اسم علي مقرونا على الدوام بكل شيء يشير إلى الإسلام وعظمته أو إلى الخير والقوة. فرسمنا له في ذهننا القروي صورة عظيمة.

في تلك الحقبة التي عاصرتها لزهاء عقدين، كنا، وبما لا يدع مجالا للشك، شيعة، بما يحمله المعنى الديني للمصطلح، وليس المعنى السياسي، وذلك انطلاقا من الأساس التاريخي الذي ارتكز على الحب والمناصرة، قبل أن يذهب إلى علم الكلام والفلسفة، وينخرط المسلمون في جدالات أضرت بالدين وقسمته متخذة أفكارا واعتقادات جديدة، مزقت الدين بين مئات الفرق.

وقتها، لم نكن نعلم أننا نلتقي مع "الشيعة المذهبية" في بعض الأمور، ولم يكن يعنينا، أيضا أننا كنا نتفق أو نفترق مع أي أحد، فكل ما كان يهمنا أننا أخلصنا النية للدين ولحب آل البيت، ورأيناهم أحق الناس في السير على خطاهم.

الغريب اليوم، أن هذه البيئة بالذات، أصبحت من أشد المتعصبين لـ"مذهبيتها" السنية، وأجرت كثيرا من المراجعات، عمدت خلالها إلى "تنقية" أفكارها من كثير من العادات التي سادت طويلا، ومن المقولات الشائعة، لكي يفترق طريقها عن الشيعة.

المسألة ليست دينية صرفة، ولا هي مؤامرة كونية علينا، بل هي إفرازات السياسة التي وضعت المسلمين جميعهم في مواجهة بعضهم بعضا، نتيجة عقود من القهر ومصادرة الحرية، ليلجأ كثيرون إلى الهويات الفرعية الكثيرة المنتشرة في عالمنا، من أجل الاحتماء والتعبير عن النفس.

إيران، التي تطرح نفسها ممثلة للشيعة في العالم، وسياستها التوسعية في المنطقة، وانخراطها في أكثر من حرب ونزاع في عالمنا العربي، إضافة إلى مساهمات الإعلام في تغذية الصراعات، جعلنا نتخذ منها موقفا سياسيا، تطور مع الوقت إلى أن يصبح موقفا دينيا نحاول جمع الشواهد على مشروعيته.

بيئتي القروية، وغيرها من البيئات الكثيرة المنتشرة في شمال الأردن، تصلح أن تكون مكانا لدراسة التحولات التي طرأت على المجتمع، ولتبيان كيف أن الظروف والصراعات والنزاعات السياسية المحيطة، قادرة على تغيير المفاهيم، حتى الدينية منها. ولنتأكد أننا واجهنا تماما، ما واجهه المسلمون الأوائل، حين افترقوا على أساس سياسي، ثم جاء من ألبس ذلك لبوسا دينيا.

المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا