الانتصار لحرية الصحافة مجددا

«..أما التساؤلاتُ حول الشخصية العامة ومن أين لك هذا، فهو سؤالٌ مشروعٌ لأي مسؤول، ومن حق الصحافة التحري عن ذلك كونّها السلطة الرابعة؛ طالما أنّ الهدف ليس شخصيًا بحتًا وإنما للمصلحة العامة وليس المقصود فقط للتشهير… وأنّ دور الصحافة ليس مغلولًا ومن حقها استظهار الحقائق والتساؤل؛ طالما أنّ السؤال مشروع لا ينطوي على نيةٍ غير سليمة».اضافة اعلان
من جديد، ينتصرُ القضاءُ الأردنيّ لحرية الصحافة من خلال الحكم الصادر عن محكمة استئناف عمان رقم 9149/2020م، ويعيدُ تأطير شروط النقد المباح، ويرسخُ في مسيرة التطبيق القضائيّ أنّ «دور الصحافة ليس مغلولًا ومن حقها استظهار الحقائق».
ومن جديد أيضًا، نؤكدُ القاعدة الراسخة بأنّ القضاء المستقل النزيه هو خط الدفاع الأول عن الحريات، والآلية الوطنيّة الأهم والأسمى والأقوى في حماية حقوق الإنسان وانفاذها على أرض الواقع.
بمناسبة هذا القرار، وفي اطار الحديث عن حرية الصحافة، نعيدُ تأكيد عدة محاور جوهرية فيما يتعلق بالحق في حرية التعبير عمومًا وحرية الصحافة بشكل خاص:
أولًا: ترتبط حرية الصحافة ارتباطًا عضويًا بحق الجمهور في المعرفة وفي الحصول على المعلومات، بل انّ الوظيفة الأساسية للصحافة هي الوفاء بحق الجماهير في معرفة الحقائق ليتمكنوا من تشكيل الآراء وبناء المواقف وممارسة الرقابة الشعبية على أعمال السلطات كافة.
ثانيًا: إنّ الطريق القويم نحو صحافة حرة يتمثل في منظومة تشريعية وطنيّة تنطلق من ضمانات دستورية تكفل حماية هذه الحرية، وتضعُ الأطر العامة التي تشكل قيدًا على المشرع تحول دون انحرافه وخروجه من اطار التنظيم نحو التقييد والمساس بجوهرها، وتحول في الوقت ذاته دون وضع قيود غير مباشرةٍ على ممارستها. منظومةٌ تشريعيةٌ وطنيّة تستند إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي كفلت حرية التعبير عمومًا وحرية الصحافة والإعلام بوصفها المكون الأبرز لحرية التعبير، ووضعت شروطًا على القيود التي تضعها الدول على حرية التعبير وحرية الصحافة في التشريعات الوطنيّة؛ لضمان عدم انقلاب العلاقة بين الحق والقيد؛ فتمسي القيود على ممارسة هذه الحرية هي القاعدة العامة والاستثناء هو ممارسة الحق.
ثالثًا: كرست اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، وهي اللجنة المنبثقة عن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمكلفة بمراقبة تنفيذه وإعماله، مبدأ مهما في اطار تعليقها العام رقم 34 الصادر عام 2011م على المادة التاسعة عشرة من العهد، ألا وهو أنّ مساحة النقد المباح أو المشروع تكون أوسع وأرحب نطاقًا عندما يتعلق الأمر بشخصيات تتولى منصبًا عامًا؛ ذلك أنّ الوظيفة العامة وما ينشأ عنها من أعمال تعدّ من الأمور التي تهم الأفراد والشأن العام والجهات الرقابية وفي مقدمتها الصحافة، لذلك وجب أن تخضع للانتقاد والمحاسبة المستمرة دون وجل أو خوف من الملاحقة الجزائية التي تحول بين الصحافة وحقها في التعبير وإعلام الجمهور.
رابعا: إنّ ادراك المضمون المعياري للحق في حرية التعبير والفلسفة التي تقوم عليها حرية الصحافة والأدوار والوظائف المنوطة بها وفي مقدمتها الوظيفة الرقابية من قبل السلطات كافة، يؤدي إلى سن تشريعات تمكن الصحافة من القيام بهذه الوظيفة وينتج عن ذلك بالضرورة قرارات تعلي من شأن هذه الحرية وقيمها وتعكس فلسفتها العميقة. ويحضرني في هذا السياق الحكم الصادر عن القضاء الإداري المصري الذي جسد هذه المضامين، عندما أشار: « ومن حيث انّ المحكمة بالمبادئ التي قررتها في هذا الحكم، تقيم حرية الصحافة على ركن من أركان الدستور، إذ حرية الصحافة هي السّياج لحرية الرأي والفكر وهي الدعامة التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الحرة. إلا أنّ المحكمة يعنيها في الوقت ذاته أن تنبه إلى المسؤوليات الخطيرة التي تلقيها هذه الحصانة على عاتق الصحافة، وإلى وجوب الاضطلاع بهذه المسؤوليات لوجه الوطن والمصلحة العامة، وفي حدود القانون…، فبقدر الحرية تكون المسؤولية، وإذا كان الدستور قد كفل للصحافة حريتها وعصمها من تعسف الإدارة، فذلك لأنه افترضها صحافة رشيدة، لا تميل مع هوى، ولا تتجه إلا إلى مصلحة عامة.»