الانتفاضة الحتمية

دومينيك مويسي*

باريس- بعد حجارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، جاءت القنابل البشرية للانتفاضة الثانية. والآن، يلجأ الفلسطينيون إلى السكاكين. فهل تندلع الانتفاضة الثالثة عشية الذكرى العشرين لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، آخر رجل كان يمثل أملا حقيقياً للسلام؟اضافة اعلان
في واقع الأمر، يبدو أن الذين ينفذون هجمات السكاكين الأخيرة في إسرائيل والضفة الغربية هم "ذئاب منفردة". ولكنهم يعكسون موجة جديدة من المقاومة الفلسطينة التي تتعدى الهجمات الجسدية؛ حيث انعكس ذلك على سبيل المثال في الحريق المتعمد الأخير للضريح اليهودي في نابلس. والآن، مع الدعوة الواضحة التي أطلقتها حماس لانتفاضة ثالثة، فليس هناك شك في أن الوضع خطير.
في الحقيقة، لا يجب أن يكون اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة أمراً مفاجئاً، نظراً لأنه لم يحدث أي شيء لكسر هذه الحلقة الإسرائيلية الفلسطينية من الهدنات الهشة والانفجارات العنيفة، حتى أن الموقف لا يعد جامداً، وإنما يتدهور بسبب زيادة التطرف السياسي والديني على كلا الجانبين. لكننا إذا نظرنا إلى مواقف المجتمع الدولي، لوجدنا أن أحداً لا يدرك ذلك.
حضرت قبل بضعة أيام مؤتمراً صغيراً في باريس، والذي كان يركز على التحديات الجدية وتغير ميزان القوة في الشرق الأوسط؛ حيث لم يتكلم أي من المتحدثين الرئيسيين ولو حتى بإشارة عابرة عن موجة العنف المتصاعدة في إسرائيل. وكان الحاضرون مشغولين بمناقشة الأزمة في سورية -والتي تشكل الآن تهديداً حقيقياً بحدوث تصعيد دولي- بالإضافة إلى العواقب الدبلوماسية والاستراتيجية والاقتصادية للاتفاق النووي الإيراني.
في واقع الأمر، لم تتبق لقادة العالم الكثير من الطاقة ليصرفوها على ما يبدو أنه صراع لا ينتهي بين إسرائيل وفلسطين. وهو صراع حاولوا وفشلوا في التوصل إلى حل له في مناسبات لا حصر لها. وهناك شكوك قوية في أن هناك بديلاً قابلاً للحياة للوضع القائم الهش والعنيف أحياناً هناك.
لقد رفضت إسرائيل مغادرة المناطق المحتلة في الماضي، فكيف يمكن أن نتوقع أن تفعل ذلك الآن، مع زحف تنظيم الدولة الاسلامية في اتجاه الحدود؟ إن عمل ذلك سوف يؤدي إلى مخاطر جديدة كبيرة، في تناقض صارخ مع موجات العنف الوجيزة في ظل وضع أمني مستقر في إسرائيل.
على الجانب الفلسطيني، مَن هو الذي سيرغب -إذا استطاع ذلك- الانخراط في مفاوضات جدية مع الحكومة اليمينية في إسرائيل؟ هناك العديد من الخلافات ونقاط الضعف في الجانب الأول، ووهم كبير بالقوة في الجانب الآخر، مما يعني أن من الصعوبة بمكان أن تسفر المحادثات عن أي شيء ذي قيمة.
على أي حال، وحتى لو استأنفوا المحادثات، فإن المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين لن يتوصلوا إلى اتفاق بأنفسهم، والمجتمع الدولي منقسم إلى حد كبير ومتعب وغير مهتم بفرض صفقة عليهم. وإذا كان هناك أي إجماع اليوم، فإنه إجماع سلبي، حيث أن جميع الأطراف سلمت بالوضع الحالي، وبأن حلم "حل الدولتين" -القائم على الفكرة السلمية المتمثلة في الأرض مقابل السلام- قد أصبح ميتاً عملياً.
بطبيعة الحال، فإن الوضع القائم هو أسوأ بكثير بالنسبة للفلسطينين مقارنة بالإسرائيليين. ولكن، ربما يتوجب على الفلسطينيين أن لا يفعلوا شيئاً سوى الانتظار حتى تنمو أفضليتهم الديمغرافية. وحتى من دون دولة خاصة بهم قابلة للحياة، فسوف يصبح الفلسطينيون بشكل متزايد هم الأغلبية في "الدولة اليهودية" الحالية. وسوف تكون الأبعاد السياسية والاجتماعية والدينية لمثل هذا التحول كبيرة وغير مقبولة بالنسبة للإسرائيليين.
لقد استعصى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على الحل، نظراً إلى كونه صراع بين قوميات. وإذا أصبح صراعاً بين الأديان كذلك، فإن التوصل إلى تسوية سوف يصبح من المستحيلات تقريباً، حتى من دون المزيد من التطرف.
نظرا لغياب خيار حل الدولتين عن الطاولة، وعدم جدوى حل إقامة دولة سلمية ثنائية القومية، فإن بعض الأصوات، والتي يأتي معظمها من اليسار الإسرائيلي، أصبحت تبحث الآن فكرة ثالثة: كونفيدرالية بين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين. ولدى الفلسطينيين صلات قربى قوية مع الأردنيين، علماً بأن أكثر من نصف الأردنيين هم من أصول فلسلطينية. وفي الوقت نفسه، يشكل الأردن أقرب شريك لإسرائيل في المنطقة. وهذه العوامل تجعل الأردن يبدو للكثيرين جسراً مثالياً بين إسرائيل وفلسطين.
بالطبع، ما يزال هناك انعدام خطير للثقة بين الأطراف. ولكن مهما يكن من أمر، فإن أنصار هذه الفكرة يجادلون بأن المزايا الاقتصادية الواضحة لتلك الكونفيدرالية -والتي سوف تشمل منطقة تجارة حرة ومشاريعاً اقتصادية مشتركة- يمكن أن تكون مغرية لجميع الأطراف بحيث ينظرون إلى هذه الفكرة بجدية.
لكن ذها الاقتراح، وإن كان جذاباً، لا يتماشى مع وقائع الشرق الأوسط اليوم. فخلافاً للبلدان الأوروبية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مرهقة من الصراع إلى درجة أنها وافقت على تقاسم سيادتها من أجل السلام، فإن بلدان الشرق الأوسط تشهد مناخاً متزايداً من القومية والتعصب والكراهية.
لقد تسببت سياسة الاحتلال الإسرائيلية في هذا التحول المستمر في اتجاه اليمين السياسي، مما قوض الأسس السياسية والأخلاقية للدولة. وفي الوقت نفسه، جعلت رئيس الوزراء بينامين نتنياهو رهينة لقوى أكثر منه تطرفاً. ولم تعد الأقليات الصغيرة من المتطرفين الإسرائليين تتردد في استخدام العنف من أجل الدفاع عن آرائها، أو فرض تلك الآراء على الآخرين. كما أن زيادة التطرف على الجانب الفلسطيني بسبب الاحتلال موثقة. ولكن، في خضم صعود نجم تنظيم الدولة الاسلامية ونهاية عزلة إيران الدولية، ناهيك عن هجمات السكاكين الفلسطينية، مَن يستطيع إقناع الإسرائليين بأن أكبر تهديد طويل المدى لهم هو في السياسة الإسرائيلية نفسها في واقع الأمر؟
لا نستطيع القول على وجه اليقين إنه لو كان رابين ما يزال حياً، لكان السلام بين الإسرائليين والفلسطينيين قد أصبح واقعاً. ولكن، وبينما تتجه المنطقة بشكل متزايد نحو الهاوية، فإننا بحاجة ماسة إلى هذا المزيج النادر من الشجاعة والتواضع والشفافية التي كان يمثلها رابين.

*أستاذ معهد السياسة في باريس، وهو مستشار رفيع للمعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر في كينغز كوليج، لندن.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".