الانتفاضة والثورة

كلما برزت ظاهرة ما ظهر الاختلاف والتناقض في المصطلحات، وظهر كم نحمّل المصطلحات كمية شحن أيديولوجي، الأمر الذي يفقد إمكانية أن تكون هي "الرموز" التي تسمح لنا بالتفاهم حول الأفكار. فالمصطلح تعبير يشير إلى مسألة، تبلور خلال تطور الفكر عموماً، وبالتالي أصبح متوافقاً عليه.اضافة اعلان
ومنذ اندلاع الانتفاضات في البلدان العربية ظهر الخلاف حول طبيعة ما يجري، هل هو ثورات أم انتفاضات، أم حراك؟ حيث يجري تصنيف كل مصطلح في صيغة معينة، كما يجري هذا التصنيف بشكل غير ممنهج وبشكل عشوائي ما يجعل المعنى مختلفاً من شخص إلى آخر تبعاً للاتجاه الأيديولوجي، أو حتى في
الاتجاه الأيديولوجي ذاته.
فالثورة يجب أن تكون منظمة، ويقودها حزب، وواضحة الأهداف؛ أو يجب أن تهدف إلى تغيير النمط الاقتصادي؛ أو يجب أن تكون منتصرة. كل هذه الـ"يجبات" هي حمل أيديولوجي يلقى على تعبير سياسي بسيط، يُقصد به التمرد على السلطة من قبل الشعب، سواء كان الشعب كله أو جزء منه، وسواء كان واضح الأهداف أو غير واضح الأهداف، وأيضاً سواء انتصر أو انهزم (فالتاريخ يحوي آلاف الثورات المهزومة). هذا هو المصطلح في معناه السياسي بدون تزيّد أيديولوجي، أو شطح ذاتي.
ولهذا، ما يجري في البلدان العربية هي ثورات، رغم عفويتها وعدم وضوح أهدافها في بعض البلدان، ورغم أنها لا تؤدي إلى تغيير الطبقة الرأسمالية المسيطرة، أو تؤسس لحكم الطبقات الشعبية. أما مسألة وجود حزب وأهداف واضحة وتكتيك، فهي ضرورة لكي تنتصر الثورة وتؤدي إلى تغيير حقيقي يعبّر عن الطبقات الشعبية. ولأن الثورات العربية ليست كذلك، فإن نتائجها ليست أكثر من تغيير شكلي في بنية السلطة، من دون أن يحقق مطالب الطبقات الشعبية. ولهذا بالضبط ستستمر في الصراع لكي تصل الثورة إلى منتهاها الطبيعي، الذي يتمثل في انتصار هذه الطبقات.
أما كونها انتفاضة فهذا صحيح كذلك، لأن الانتفاضة هي شكل التعبير عن الثورة (مثل العمل المسلح أو الإضراب العام أو العصيان المدني). فالثورة تتخذ شكل التظاهر الشعبي كتعبير عنها. فالحراك الشعبي الذي ربما يبدأ بأشكال احتجاج ويتوسع إلى تظاهرات يتحوّل إلى انتفاضة شاملة حين يشمل الطبقات الشعبية. وفي الغالب تكون الانتفاضة عفوية و"انفجارية"، يمكن أن تشمل كل الشعب أو مناطق معينة فقط.
بالتالي، وما دامت المصطلحات هي توافق على كلمات لكي تكون أساس تركيب الأفكار من أجل أن تقود إلى تفهّم متبادل، لا بد من التزام تاريخية المعنى الذي يُعطى للكلمات، وإلا تعمم التشوش الفكري، ونشأت التناقضات نتيجة هذا الاختلاف. وربما هذا ما نلحظه في الوطن العربي، حيث التشوش والتخبط، وحيث التصارع رغم عدم الاختلاف أحياناً.
وبهذا، فما يجري في البلدان العربية هو انتفاضات كذلك. وبالتالي فالانتفاضة ليس في مرتبة أقل من الثورة، بل هي شكلها. لهذا لسنا بحاجة إلى "فذلكات" حول ماهية ما يجري، ما يهم هو أن نسأل: لماذا ليس هناك أحزاب تستطيع أن تلعب دوراً فيها، وأن تقودها إلى الانتصار الذي يعني الإسقاط الحقيقي للنظم، بما هو إنهاء للنمط الاقتصادي وللسلطة السياسية؟
هنا يتمحور كل ما يمكن أن يفتح نقاشاً، أو ما يجب أن يفتح نقاشاً.