الانحراف الفكري وتبديد مصالح الأمة: "داعش" نموذجا

د. عصر محمد النصر

في إشارة إلى محطات ضعف تمر بها الأمة، أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، عن شر قد اقترب: "ويل للعرب من شر قد اقترب" (البخاري). وفي السياق ذاته، بيَّن صورة من صور هذا الشر المقترب: "تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" (صحيح). وقد جاء هذا الكلام في سياق تحذير الأمة من عدوها؛ بالاحتياط والتنبه لمصالحها، وحفظ وجودها وبقائها. ومن هنا جاء التعبير بـ"الأمم" في سياق التحذير، لأنه الأشدُّ أثرا على الواقع. وقد مضى الأمر على وفق ما حذر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعانت الأمة من ويلات تداعي الأمم عليها. اضافة اعلان
على أن الأمة أضعف ما تكون إذا اختلفت فيما بينها على مصالحها: "حتى يكون بعضكم يهلك بعضا" (مسلم). ولا تخطئ عين الناظر في هذه الأيام ما تتعرض له الأمة على يد بعض أبنائها؛ من تضييع لمصالحها وتشتيت لجهودها. وأشد ما يكون ذلك ما كان منه ذريعة لتداعي الأمم وتسلطها، سواء حصل بقصد أو من دون قصد. إلا أن ثمة أسبابا تعين على ضعف الأمة، حتى تكون مرهونة في أيدي غيرها؛ وبيانه من خلال الآتي:
لا بد من فكرة مركزية لكل دعوة، تمثل محور هذه الدعوة. وأعظم ما يجتمع عليه الناس هو الدين، لما له من أثر في حفظ اجتماع الناس وحثهم على كل ما يؤلف بينهم وينهض بهم. وكلما تحقق التدين من خلال حسن التطبيق، وإيجاد قدر من الانسجام بين الفكرة المركزية والعامل بها والمستند إليها -أو بعبارة أخرى قدر من الانسجام بين المسلم وإسلامه (المسلم: الفرد والمجتمع، الحاكم والمحكوم)- كانت الأمة قوية قادرة، ترتفع بنفسها، وتدفع عنها تداعي أعدائها وتسلطهم. فالأمر مرهون، إذن، بتحقق قدر من الانسجام الذي هو ركيزة القوة وأساسها. وإنما تكون البلية عندما يضعف هذا الانسجام ويضعف أثر التدين في النفس، وذلك بحدوث الاختلاف أو وجود المعارض لسبب أو لآخر. وهنا يقل الانتفاع بتلك الرابطة المشتركة والفكرة المركزية، وقد يصل الأمر إلى استدعاء العامل الخارجي الذي لا يرقب إلَّا ولا ذمَّة.
وهذه المعارضة للفكرة الجامعة متعددة الأسباب، مختلفة الصور. إلا أن الجامع لها هو الجهل بحقيقة الفكرة المركزية وقدرتها على تحقيق المصلحة المنشودة، فيظن قصورها أو حاجتها لغيرها. ومن أسباب المعارضة أيضا، اتباع الظن والهوى. ومنها استحداث وسائل غير صحيحة.
ومن تأمل التاريخ علم مصداق ما تقدم. فما سقطت الأندلس إلا عندما استعدى أمراءُ الطوائف ملوكَ النصارى على إخوانهم، رغبةَ في الغلبة وحب التملك والسيطرة. ومثل ذلك جرى في الشام بين الدويلات المتنازعة، وكذلك ما جرى على يد الدولة الصفوية من إعانة للحملات الصليبية على الدولة العثمانية. كل ذلك يجري من خلال جهل بحقيقة الإسلام وترك الالتزام بتعاليمه.
وفي حاضرنا اليوم، نشهد أنواعا من الممارسات التي مآلها إضعاف الأمة وتبديد مصالحها، كما نرى ذلك من خلال اقتناع بعض أبناء الأمة بأفكار ومعتقدات تخالف شرعنا الحنيف وتعاليم ديننا. وقد جرى مثل هذا على يد شرائح متعددة من العلمانيين والليبراليين، ممن يصرف الأمة عن حقيقة رسالتها؛ رسالة الرحمة للعالمين، فيطالب بإباحة المحرمات بحجة التقدم ومجاراة الواقع، متناسيا أسباب النهضة الحقيقية وعوامل القوة. ومثل ذلك ما يجري على أيدي طوائف من الأمة ممن تخالف ما عليه عامة المسلمين، وترتهن للآخر بحجة المظلومية وطلب المصالح، حتى أصبحت هذه الطوائف مطية للدول الغربية، ترسم من خلالها حدود المنطقة وتتدخل في شؤونها كيف شاءت.
تنظيم "داعش" وتبديد مصالح الأمة
مثّل الانحراف الفكري والعقدي، على مرّ التاريخ، ملاذا مهما لأصحاب الأغراض والأهواء. فكادت كتب "التاريخ" و"المِلل والنِحل" تُجمع على أن كثيرا من أبناء الأمم المهزومة -ممن دخل إلى الإسلام تقية وكيدا- وجد في الفرق الباطنية ملاذا له. وهذا يعود لطبيعة هذا الفكر ذي السمت السياسي، الذي هو من أوائل الانقسامات التي حصلت في التاريخ، وأساسها طلب الحكم والإمارة. وهكذا، كلما ابتعد الفكر عن حقيقة الإسلام، كان أكثر قبولا للاختراق والانحراف، ومن ثم مخالفة الأمة في مصالحها.
وما قيل في هذه الفرق والجماعات، يقال في بعض التنظيمات "الجهادية" التي ظهرت في وقتنا الراهن، ومنها تنظيم "داعش"؛ حيث وجدت فيه أسباب الاختراق، مثل الغلو في الدين. إذ تضعف حقيقة الإسلام والانتماء إليه، ويتوهم صاحبه مصلحة ما ليس بمصلحة، ويتعدى في نظره عموم الأمة ولا يلتفت لها. وهذا الذي جرأ كثيرا من الناقمين على ركوب صهوة هذا التنظيم واعتلاء موجته، وضرب مصالح الأمة من خلاله؛ فدخل فيه بقايا النظام العراقي السابق، حتى باتوا أهم موجهين له ومحركين، واجتمع له الشيوعي واليساري. وقد كشفت بيانات هذا التنظيم في وقت قريب عن وجود عدد كبير من أفراد أجهزة الاستخبارات العالمية التي كان لها أثر في توجهات التنظيم. بل أصبح هذا التنظيم وأشباهه ملاذا لكل مخالف للأنظمة القائمة يعمل على وفق مصالحه من دون مراعاة لحقيقة الإسلام وتعاليمه.
على أن الباب الأوسع الذي ولج منه الكثير، هو تلك المصالح المتوهمة التي صيَّرت الوهم مشروعا تدعى إليه فئات من الشباب. كما سهل المنهج الظاهري المتبع لدى "داعش" دخول كثير من الشباب من خلال تجريدهم من كل متعلقات الواقع وروابطه؛ فجعلوا من إطلاق أحكام الكفر والردة سبيلا لتوجيه جهود الشباب، فصدرت الفتاوى بقتل كل قريب ينتمي لأجهزة الدول المرتدة بزعمهم!
ومن عُقَد التنظيم التي سهلت اختراقه وتوجيهه، ما يدعيه من محاربة الاستكبار العالمي والحلف "الصهيو-صليبي"، حتى تقاطعت أهدافه ومصالحه مع قوى متنفذة على مستوى الإقليم والعالم؛ فكان وجوده يصب دائما في مصالح تلك القوى، بعلم أو بغير علم. فما جرى في أفغانستان في زمن مضى، يتكرر اليوم بصورة أشد وأنكى؛ حيث ذهبت تلك التنظيمات وبقيت الدول المتنفذة على حالها. وإنما تبددت مصالح الأمة وتأخرت نهضتها وضَعفت عناصر قوتها. ولا يفوتني هنا التذكير بأن الانحراف الفكري لا يختص بهذا النوع من الغلاة، بل يشمل تلك الفئة التي تضفي الشرعية على كل ممارسات الأنظمة الحاكمة، حتى تسببت بسد باب الإصلاح في كثير من الأحيان، بل أصبحت ذريعة لدى كثير من الشباب للانضمام للغلاة أو التعاطف معهم.
في الختام، فإن الجهل بحقيقة الإسلام، وضعف الانسجام والعمل بتعاليمه، يعدان أهم الأسباب في اضطراب واقع الأمة وتداعي أعدائها عليها. وإنما يؤتى الناس من فئات جهلت حقيقة الإسلام أو غلت في تحقيقه، وفي الحالتين ضَعُفَ العمل به.