البرابرة، كنوع من الحل..!

لم تكن أحداث هذه المنطقة أكثر إرباكاً مما هي الآن قط، خاصة مع الحركة الشبحية للاعب الأكثر بربرية ومراوغة وغموضاً "داعش". فقبل وقت قصير فقط، تحدث الإعلام والمراقبون بحماس عن تراجع المجموعة الوحشية، أو تثبيتها على الأقل. بدأ ذلك في كوباني السورية، ثم المناطق الكردية العراقية، ثم جاء طرد المجموعة من تكريت، فيما قيل إنه مقدمة لتجريدها الوشيك من الموصل. وبدا أن الدول العربية المترددة حسمت خياراتها لصالح محاربة المجموعة، بالإضافة إلى إيران، والميلشيات الشيعية، والولايات المتحدة ودول غربية. ومع ذلك، خبا الحماس وخابت التوقعات مجدداً بعد أن استولى "داعش" على الرمادي، وتعمق في بيجي، وانتزع تدمر السورية، وتقول الأخبار إنه يسيطر الآن على نصف سورية، ويهدد بالاندفاع إلى بغداد.اضافة اعلان
ما هو هذا التنظيم؟ من أين يجيء بأسلحته ومخططاته ومقاتليه؟ كيف يتمكن –في مواجهة كل هذه القوى- من الصمود والتوسع وفتح فروع وولايات؟ هل يريد الأميركان فعلاً القضاء على "داعش"، ولا يستطيعون؟ من هم الذين يخدمهم وجود هذا التنظيم، بهذه الكيفية وفي هذا التوقيت؟ كل هذه أسئلة تحير المراقبين، وتملؤنا نحنُ بالهواجس أمام ما يبدو مشهداً سوريالياً مفزعاً لا نملك معه أي يقين.
وجدت –بالصدفة- تفسيراً ما، لدى معاودة مطالعة قصيدة الشاعر اليوناني-المصري قسطنطين كفافي (1863-1933) "في انتظار البرابرة". وبدا لي أن كفافي يصف ما يحدث هنا الآن، ويجيب عن سؤال البرابرة ووظيفتهم. والقصيدة دراما كاملة، بحوار من أسئلة وإجابات. وفيها يسأل صوت (ربما في منولوج داخلي): "- ما هو ذلك الذي ننتظره، مزدحمين في الساحة؟"، ويأتي الجواب: "يُفترض أن البرابرة سيصلون اليوم".
ثم تتعاقب الأسئلة عن السبب في أن مجلس الشيوخ لا يسن القوانين اليوم، وأن الإمبراطور استيقظ مبكراً وجلس على عرشه عند البوابة الكبرى معتمراً تاجه؛ ولماذا خرج القضاة والقناصلة والحكماء بأزيائهم وصولجاناتهم المطعمة بالفضة والذهب؟ لماذا كف الخطباء المفوهون عن الخطابة؟ ودائماً جاءت الإجابات: لأن البرابرة سيأتون اليوم. لذلك كف الشيوخ عن العمل حتى يصل البرابرة، ثم يعودون إلى سن القوانين؛ والإمبراطور جلس عند البوابة ليستقبل قائد البرابرة بخطاب مليء بالمدائح والألقاب؛ والحكماء والقضاة جاءوا بكامل الزينة لأن الفخامة تدهش البرابرة؛ والخطباء كفوا عن الخطابة لأن البرابرة يسأمون من الفصاحة البلاغة. (يحبون العمل). ببساطة، حلت محل رتابة الحياة مشاعر التوقع واللاعادية، لأن البرابرة قادمون اليوم.
ثم ينتهي الموقف بهذا الحوار:
- لِمَ أطبق علينا هذا الضيق المفاجئ، والاضطراب؟
(لكَم هي عابسةٌ وجوه الناس)
لِمَ تفرغ الشوارع والساحات هكذا، سريعاً؟
والكل يعودون إلى دورهم، غارقين في الفكر؟
-لأن الليل حلَّ، ولم يأت البرابرة.
ولأن أناساً وصلوا من الحدود.
وقالوا أنه لم يعد ثمة برابرة .
والآن… ماذا نفعل من دون البرابرة؟
كان هؤلاء الناس نوعاً من حل.
في التعليق على هذا الموقف، يقول الناقد دانيل منديلسون: "الاستنفاد الثقافي، الهمود السياسي، والتوق المنحرف لحدوث بعض الأزمات العنيفة التي قد تكسر حالة الجمود وتعيد تنشيط الدولة: هذه الثيمات المألوفة جداً لنا في الوقت الراهن، هي التي يعرضها كفافي". وفي الحقيقة، هذه وصفة لما يحدث في منطقتنا الآن. كأن الجميع يحتاجون إلى "البرابرة". الإمبراطوريات تحتاج إلى أعداء لتبرير وجودها. وعندما يختفي العدو الذي تخيف به مواطنيها، تخلق لهم عدواً جديداً تهددهم به وتصرف عن نفسها الانتباه. والناس، الذين يخدعون أنفسهم كل الوقت للهروب من تحمل المسؤولية عن أقدارهم، لا يجدون السلوى عندما لا يغزوهم البرابرة، لأن هناك الخوف من أن يجدوا أنفسهم وحيدين مرة أخرى، بلا عدو يجسد مشكلاتهم، أو ربما يحلها! والأصوات كلها لحضارة منهكة، غير قادرة على المقاومة، وعاطلة جداً من الأمل.
النظام العربي الذي أفزعته الانتفاضات الشعبية قبل أعوام، يختلق مزيداً من "البرابرة" كل يوم ويفتح مزيداً من الجبهات، عله يستديم. ونحن مرتبكون، يدافع الكثيرون منا عن قدوم البرابرة كخيار قد لا يكون أسوأ من الركود المقيم، بل –من أين هم كل هؤلاء الذين يرفدون العنف المتطرف، سوى من بيننا؟! لقد أوصلونا انتظار قدوم البرابرة، لا أقل، كنوع من الحل!