البرقوق...

من بين فواكه أوائل الصيف، ظل البرقوق حائرا حول طبيعته وانتمائه؛ فلا هو لوزي كما الدراق والمشمش، ولا هو محسوب على فصيلة التفاحيات! لأوراقه شكل يشابه أوراق الدراق، لولا انسيابها الطولي، ولونها الأكثر بريقا. ولشجرة البرقوق قوام ممشوق شامخ مستقيم، يتألف من بضعة فروع موصولة بالجذع الذي يبدو متوردا ناعما مثل ساق التفاح في سنوات زراعته الأولى، ثم ما يلبث أن تطاله الخشونة والتصمغ بعد العام الرابع.اضافة اعلان
وثمار البرقوق المنبثقة من أزهاره تولد خضراء، وتحافظ على خضرتها طوال رحلتها نحو النضج؛ من بدايات الربيع وحتى أواسط الصيف، فتأبى معظم أصناف البرقوق، طوال هذه الرحلة، التنازل عن لونها الأخضر بالرغم من استدارة الشمس طوال أيام الصيف حولها، في محاولة لإذابة حلاوتها وإكسابها شيئا من الصفرة.
جارات البرقوق من الخوخ والمشمش والدراق، تدخل في سباق النمو والنضج، وتحول الألوان؛ فينحو الخوخ نحو الاحمرار، ويكتسب المشمش ألوان خدود الصبايا الخجولات، في حين يتحول الدراق الذي يتفوق في حجمه على الجميع، نحو ألوان يمتزج فيها الأصفر بالبنفسج بالحمرة.
طوال الأعوام التي عشناها، قلما نسمع مزارعا يتحدث عن البرقوق كمنتج استراتيجي، أو نشاهد مرشدا أو مهندسا زراعيين أو مديرا لمشتل من مشاتل الأشجار المثمرة، يعرض في حديثه أو زاوية مشتله شتلات برقوق، ويتكلم عن مزاياها، كما يفعلون فيما يخص المشمش والخوخ والدراق. وقلما ضمّن متسوقو الفواكه قوائم مشترياتهم كمية البرقوق التي ستدخل سلالهم. ولا أظن أن أصحاب محلات بيع التجزئة يهتمون كثيرا بالبرقوق، ولا يكترث البعض لأن يعرف بالضبط الفاكهة التي يقال لها برقوق.
منذ عقود، كان في قريتنا بستان لأحد أهالي القرية المتدينين ممن رحلوا عن القرية ليعمل في المدينة المجاورة. في بستان الحاج اسماعيل، كانت شجرات صفصاف وزيتون وتين، وتفاحتان عند رأس النبع، وشجرة تشبه الخوخ قيل لنا يومها إنها شجرة برقوق. وقد أصبح بستان شجرة البرقوق الوحيدة في قريتنا مشاعا، يؤمه الصبية ممن اعتادوا جلب أغنام أهاليهم، في بدايات الصيف، إلى النبع الذي كان البستان محاذيا له، حيث يتحول كل الصغار في قريتنا إلى رعاة وحصادين ومزارعين وعمال طوال عطلة الصيف.
للبرقوق مذاق فيه مرارة تختلط بشيء من الحموضة في نهايات الربيع، وتتوشح بحلاوة خجولة في بدايات حزيران، ما تلبث أن تستولي على مساحات الثمرة مع نهايات الشهر وحلول تموز.
في الأسواق هذه الأيام فواكه من كل الأصناف، معظمها هجينة ومستوردة ومشكوك في حلاوتها. فمعظم الفواكه المعروضة فقدت مذاقها الأصلي لحساب مذاقات جديدة، تشكلت من كل الأصناف التي دخلت في تهجينها. الهجانة جعلت البرقوق مثل الدراق والخوخ والمشمش واللوز، وحتى الكمثرى والتفاح.
في بداية تعرفنا على الزراعة الحديثة، قيل لنا إن اللوز البري "المر" هو أفضل الأمهات التي يمكن أن تنتج منها كل أنواع اللوزيات؛ فهو مقاوم للعطش والأوبئة والحشرات، لا لشيء سوى أنه تكيف مع البيئة، وكان منسجما مع مبادئ النشوء والارتقاء التي اعتقد داروين أنها تحكم الاختيار الطبيعي، فتبقي على الأنواع الأكثر ملاءمة، فيما تستبعد تلك التي تتولد من طفرات لا يمكن الوثوق بقدرتها على الاستمرار.
قبل سنوات، كنا في ضيافة أحد المهووسين بالزراعة، ممن يديرون مزارع ناجحة في الصحراء الأردنية الشمالية. وقد تعمد أن يقدم لنا أصنافا من إنتاجه من اللوزيات الهجينة التي أثارت إعجاب رفاقنا المدعوين. وبعد أن غادرت المكان، أثار الاستعراض شهيتي لحبة مشمش بلدية، أو إجاصة من الحجم الصغير التي كانت لها رائحة تلازم من يتذوقها طوال اليوم.
البرقوق والفواكه الهجينة تضيف إلى أطباقنا ألوانا جذابة. لكنها لا تحدث اختراقا واضحا في ذائقتنا للفواكه البلدية التي نعرفها من اللون والطعم والرائحة، والبذور المنتجة من دون برامج تعهد وعناية حثيثة.