البغدادي يرفع رأسه في القبر

بهدوء انسحب الكاتب والمفكر الكويتي الدكتور احمد البغدادي من الحياة.

صحيح أنه صارع الموت بمعاناة طويلة امتدت أكثر من عام، حتى أنه قبل نحو ستة أشهر أعلن طبيبه أنه بحاجة الى معجزة للخروج من أزمته، وبجسارته استطاع البغدادي أن يحقق المعجزة، ويتعافى قليلا، عاقدا صفقة بين قلبه الضعيف والبطارية التي كانت تنعشه، ليعود إلى الحياة من جديد، ويكتب وصية خاصة طالبا فيها من صغيره أسامة "أن يرفع رأسه حتى لو كان في القبر".

اضافة اعلان

البغدادي، مفكر وأكاديمي كويتي بارز ذو توجه علماني، ولد في 1 كانون الثاني (يناير) 1951. ويُعد من أكبر الناشطين في الحركة الليبرالية في الكويت والمنادين بعلمنة القوانين، وقد مارس البغدادي مهنة التدريس في كلية العلوم السياسية في جامعة الكويت.

حصل على ليسانس علوم سياسية واقتصاد من جامعة الكويت العام 1974، ثم ماجستير في الفكر السياسي الغربي من جامعة كلارك الأميركية العام 1977، ثم دكتوراه الفلسفة في الفكر الإسلامي من جامعة أدنبره في اسكوتلندا العام 1981.

بدأ الكتابة بمجلة المجتمع الكويتية التابعة للإخوان المسلمين، ثم خرج منهم ليكتب بمجلة الطليعة اليسارية، وتنقل بالكتابة في أماكن مختلفة، وكتب عمودا بعنوان "أوتاد" في جريدة السياسة الكويتية، كما كتب في صحف خليجية أخرى، وفي العام 1999 كان أول سجين بالكويت دخل السجن بسبب قضية رفعها عليه قراء متشددون اعتقدوا بأن ما كتبه بصحيفة جامعية هو تعد على الدين.

عرفت المرحوم البغدادي عن بعد أولا، عندما فاجأني قبل عامين باتصال هاتفي، يعرفني بنفسه، ويحذرني بلهفة الأب أن "أدير بالي على نفسي"، وألا أتوسع بالكتابة حول الحركات الاسلاموية وتصرفاتها، وأن لا أطمئن كثيرا لخطابها الذي يدعو إلى الحريات، فبعضها يتحدث عن صيانة الحقوق الوطنية، لكن حوصلتها ضيقة أمام النقد، ويدها طائلة في كل مكان.

كان المقال الذي لفت نظره حول الأنفاق في قطاع غزة، وكيف تقوم حركة حماس باستيفاء رسوم على إنشائها، كما تقوم بتحصيل ضرائب على كل ما يدخل قطاع غزة من بضائع.

بعد هذا الاتصال الودود، أصبحت صديقا للدكتور البغدادي، وحريصا على قراءة مقاله اليومي، ومتابعة أخباره، ومحاولاته مواجهة كل أشكال الفكر المتطرف.

لقد أهدى البغدادي الى المكتبة العربية العديد من المؤلفات من بينها تجديد الفكر الديني، دعوة الى استخدام العقل، والدولة الاسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي، والفكر الإسلامي والإعلان العالمي لحقوق الانسان، ودراسات في فقه السياسة الشرعية، وأحاديث الدين والدنيا: الواقع المفارق للنص الديني...

قبل شهور، وبعد أن غادر مرحلة علاجية صعبة كتب البغدادي وصية شجاعة عبارة عن رسالة إلى زوجته وأولاده، طالبهم فيها بتوزيع الارث بينهم بالتساوي تحقيقا للعدل الذي آمن به، كما دعاهم الى ان يبقوا متحابين ومتعاضدين في وجه الدنيا، وأن لا يلجأوا الى مخفر او نيابة أو قضاء لحل مشكلاتهم، وأن يحترم الصغير فيهم الكبير، ويعطف الكبير على الصغير.

وكان أجمل ما في الوصية كلماته الشفافة الرقيقة إلى رفيقة دربه قائلا "أخيرا يا أم أنور.. لقد كنت نعم الزوجة الصالحة والأم الحافظة لبيتك...شكرا على سنوات العمر الجميلة التي قضيتها معك بحكمتك ورجاحة عقلك".

دكتور أحمد، أعرف أن قلبك قد اعتصره الألم عندما منع الدكتور نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت قبل أشهر، لكن ها هو الدكتور أبو زيد يسبقك إلى عالم آخر، قد لا تحتاجان فيه الى تأشيرات لتضيئا فيه عقولنا بفكركما، ورسالة التنوير التي تحملانها.

لك الرحمة ولنا أيضا، وما بدلت تبديلا.

[email protected]