البلديات: نتكلم شيئاً ونمارس شيئاً آخر

في لقاء نخبوي ضم متخصصين وعاملين في تجربة البلديات، عقده أحد مراكز الدراسات قبيل الاجتماع المشترك لمجلسي الأعيان والنواب لإقرار مشروع قانون البلديات المقترح من قبل الحكومة، تحدث وزيران سابقان للشؤون البلدية وخمسة من رؤساء البلديات السابقين بينهم أربعة رؤساء لبلديات كبرى. طال حديث المتحاورين قانون البلديات، والانتخابات البلدية، وعلاقات المجالس البلدية بوزارة الشؤون البلدية والوزارات الأخرى ذات الصلة، والعلاقات مع الحكام الإداريين.اضافة اعلان
كال المتحدثون جميعاً أشد النقد للتجربة البلدية بكل جوانبها التي تم التطرق إليها. وقد صبوا أكثر النقد على قانون البلديات الذي نعتوه بالمتخلف واللاديمقراطي، والمفرغ من مفهوم الإدارة المحلية والشعبية ومن مفهوم اللامركزية الإدارية والتنموية. وأضافوا إلى ذلك أنه يعبر عن إرادة سياسية ضعيفة ومنحازة تفتقر إلى رؤية ديمقراطية تحترم المشاركة الشعبية ورأي المجتمعات المحلية ودورها في إدارة شؤونها.
وفي التطبيق العملي وممارسة الجهات الرسمية لصلاحياتها بموجب القانون، لم يكن النقد أقل وطأة. وصفوا دور وزارة الشؤون البلدية بالهيمنة الإدارية والمالية على المجالس البلدية، ولم يروا في أداء الوزارات الأخرى ذات الصلة، مثل وزارة المياه ووزارة الاتصالات ووزارة الأشغال العامة، ما يختلف عن أداء وزارة الشؤون البلدية؛ فهي تنفذ مشاريعها داخل حدود البلديات من دون إعلام المجالس البلدية ومن دون التنسيق معها، ناهيك عن تدخلات الحكام الإداريين في مسؤوليات وصلاحيات المجالس البلدية، والاستقواء عليها أو الإعراض عن التعاون معها.
كان حديث المتحدثين موضوعياً ينم عن تجارب وخبرات عملية لا بد من الإنصات إليها. وللحق، فإن جل ما قالوه يلامس الحقيقة إلى حد كبير، من واقع خبرتهم وتجربتهم وإيمانهم بما يفترض أن تكون عليه البلديات كمؤسسات لإدارة الشؤون التنموية للمجتمعات المحلية بصورة ديمقراطية تشاركية، وتكريس دورها كنواة للامركزية الإدارية والتنموية، وحلقة أساسية في بنيان النظام الديمقراطي الوطني.
في ختام الاجتماع، استمزج مدير الجلسة آراء المتحدثين بسؤال عما إذا كانوا مع إجراء الانتخابات البلدية بعد صدور القانون في الموعد الذي حددته الحكومة قبل نهاية هذا العام، أو أنهم مع تأجيلها. ولشد ما كانت دهشتي عندما أجاب أغلب المتحدثين بتأييد إجراء الانتخابات في الموعد الذي أعلنته الحكومة، أي بموجب القانون الذي أشبعوه نقداً وتجريحاً.
ما الفرق إذا بيننا وبين من أشبعناهم نقداً ممن صاغوا القانون؟ انتقدنا أشد النقد، ووصفنا القانون ومعه الحكومة بالعرفية والتخلف واستهداف الإدارة المحلية، ثم وافقنا على إجراء الانتخابات البلدية على أساس القانون نفسه، وفي الموعد الذي خططت له الحكومة لأسبابها التي تريدها، وكأننا نسينا أننا قلنا ما قلناه في القانون والحكومة وجعلنا منهما قبل قليل صورة لإرادة سياسية منحازة وغير ديمقراطية وتفتقد للرؤية.
نعلن رأينا ثم نتراجع عنه، ونقول شيئاً ونفعل عكسه، ونفتقد القدرة على التحصن بأمانة الموقف. ليست الحكومة أو الجهات الرسمية وحدها التي يشوب سلوكها التناقض، وتمارس الفصل بين القول والعمل في قليل أو كثير من الأحوال؛ النخب المتخصصة والخبيرة والمجربة والمسيسة تمارس ذات السلوك أيضاً، حتى بعض النخب المعارضة لا تسلم منه لشديد الأسف. فلا غرابة إن خسرنا التجربة البلدية الناجحة، ولكن ليس بفعل تخاذل الإرادة الرسمية وتشوه القانون وحسب، وإنما لحال التردد واللاموقف الذي يتلبس العامة والنخب أيضاً.