البندورة

في بلادنا يشكو المستهلك من ارتفاع اسعار السلع والخدمات الأساسية وغير الاساسية. اللحوم والالبان والبيض والحمضيات ومختلف انواع الفواكه طالها الارتفاع. رفع الدعم وما صاحبه من قرارات وتفسيرات غيّر الكثير من انماط الشراء والاستهلاك والمزاج. اضافة اعلان
الحالات التي ينقلها المدونون عن صور الفقر والمعاناة تبعث على القلق؛ نساء ورجال يذهبون الى محطات الوقود وبأيديهم عبوات زجاجية وبلاستيكية لشراء لتر من البنزين او الكاز بعد ان تضاءلت مواردهم وتضاعف خوفهم من ان يصبحوا عاجزين عن تلبية المطالب الاساسية لاسرهم واطفالهم. حتى الخبز الذي كنا نتحدى ضيق حال اليد بالقول "والله لو باكل خبز حاف" اصبح اغلى مما كنا نتوقع بعدما قيل لنا بأنه والسردين والبلابيف خطوط حمراء.
في المحنة التي يواجهها الفقراء ومتوسطو الدخل بقيت البندورة قريبة وفي متناول الجميع فقد استعصت على كل محاولات الرفع والتخزين والاحتكار واحتشدت في الاسواق الشعبية وعلى الطرقات لتعبر عن اصالتها ووطنيتها ووقوفها الى جانب الفقراء الذين أحبوها وتغنوا بجمالها وحمرتها حتى قبل ان يألفوها كما الفوها اليوم.
للبندورة مع الأردنيين تاريخ طويل من الحب والتقدير والعشق المتبادل والوفاء حتى قبل ان يتم استصلاح وادي الأردن ونتوسع في زراعتها في الاغوار والبادية وقبل ان نتسابق في النشر على جدران صفحاتنا صورا لقلاية البندورة المطيبة بقرون الفلفل مقرونة بعبارات الغزل والاشادة بمذاقها ورائحتها وذكرياتها.
 منذ عقود كان الشباب والرجال في قرى الأردن يرددون في سهرات الاعراس ومراسم الحنا وزفة العريس اغاني تشتمل على مقاطع عن البندورة وحمرتها وجمالها "احمر يا زر البندورة.. ع شان الحلوة الغندورة" ولم اكن اعرف سر الحماسة والهيجان والنشوة التي تجتاح الشباب وهم يرددون هذا المقطع ويعيدونه مرارا.
 في كل مرة يأتي الشباب المتحلقون حول العريس على ذكر البندورة ترتفع وتيرة حماستهم وكأنهم يخصونها بشيء من الحب الذي يتفوق على غيرها من الموضوعات التي ترد في اهازيجهم. فيمرون مرورا عاديا وربما باهتا على المقطع الذي يقول "تلولحي يا داليه.. يا ام غصونا عاليه.. تلولحي عرضين وطول.. تلولحي ما اقدرش اطول".
البشر مثل كل الكائنات الاخرى يجدون صعوبة في الوصول الى ما لا يمكن الوصول اليه سواء كانت اهدافا او غذاء او مقاصد ويسعدون عندما نسهل وصولهم ونمكنهم من خلال تدعيمهم لتقريب ما يريدون لتكون في متناولهم. في الاغاني الشعبية تعبيرات مهمة تنبعث من اللاوعي الانساني وتكشف عن الميول الغريزية للانسان والكائنات الحية الاخرى.
 لم ادرك طوال السنوات الطويلة التي شاركت فيها في مئات الاحتفالات المعنى او المقصود بالكلمات التي كانت تثير فينا الكثير من البهجة والحماسة "احمر يا زر البندورة.. عشان الحلوة الغندورة". البندورة التي لم تكن في تلك الايام واسعة الانتشار كانت حاضرة في اغانينا واشعارنا وكنا نتغزل بحمرتها مع اننا كنا نجنيها نصف حمراء "محمشة".
البندورة تحتاج الى رد الجميل واظهار امتناننا للوفاء والبقاء الى جانب الأردنيين في الوقت التي تلولحت فيه الاسعار عرضين وطول. فهي تستحق وبجدارة ان تكون منتوجنا الوطني الاول وعماد مطبخنا واعتماد عصيرها  كمشروب وطني. فقد استوطنت حقولنا والفت تربتها واعطتنا بلا تردد فكانت أغزر إنتاجا من القمح والشعير وبقيت في اسواقنا تزينها وتضع نفسها تحت تصرفنا دون كلفة او عناء.
في بلدان العالم تصنع الشعوب رموزا للاماكن والمراحل والقيم وكل الاشياء والموضوعات التي تهمها. لا اظن ان هناك منتجا او موضوعا أجدر من ان يكون رمزا تزيَّن به مداخل المدن. البندورة جديرة بأن يُنحَت لها تمثال على مدخل لواء البادية الشمالية وآخر على مدخل الاغوار الجنوبية والوسطى وتستحق ان تكون لها زاوية في أحد متاحفنا الثقافية او التراثية تحكي قصة الأردنيين معها.