البنوك ومخاطر تغير المناخ

محمد جميل عزم حمد*

على الرغم من اهتمام البنوك بالتعامل مع التطورات الاقتصادية التي فرضها وباء كورونا ونتائج سياسات وأدوات التعامل مع الوباء آنذاك، ولاحقاً حرب روسيا وأوكرانيا، إلا أن التعامل مع مخاطر تغير المناخ بات يفرض نفسه على استراتيجيات البنوك وخططها نتيجة للآثار الواضحة على المستوى الدولي.
في دراسة قام بإجرائها معهد التمويل الدولي IIF بالتعاون مع EY (قبل قيام حرب روسيا أوكرانيا) حول أبرز المخاطر التي ستواجه البنوك خلال الأشهر الاثني عشر والأعوام الخمسة المقبلة وفقاً لقناعات رؤساء إدارات المخاطر وأعضاء مجالس إدارات البنوك المشاركة، كانت النتائج أن مخاطر الائتمان ومخاطر الأمن السيبراني ومخاطر تغير المناخ احتلت المراكز الثلاثة الأولى بالترتيب باعتبارها المخاطر التي سيتركز اهتمامهم بها على مدى الأشهر الاثني عشر المقبلة (علما أن مخاطر تغير المناخ هي خطر يظهر لأول مرة بالدراسة التي تعد منذ عدد من السنوات)، أما ما لفت الانتباه فهو أن أول أنواع المخاطر التي تسيطر على اهتمامات الطرفين خلال الأعوام الخمسة المقبلة هو مخاطر تغير المناخ.
في الجانب الاقتصادي، يؤثر تغير المناخ على الاقتصاد الكلي بشكل عام وعلى القطاعات المختلفة، ومنها البنوك، وبالمحصلة على الأفراد أيضاً، فعلى مستوى الاقتصاد الكلي، فإنه ووفقا لنتائج السيناريوهات الموضوعة من Central Banks and Supervisors Network for Greening the Financial System (NGFS)، وفي حال كان هناك تأخر في معالجة مخاطر تغير المناخ، فإن هناك ارتفاعا أكبر في درجات الحرارة من لو تم اتخاذ إجراءات سريعة، وهذا الأمر بدوره يؤثر على نسب نمو الناتج المحلي الإجمالي بعد ثلاثين عاما وفقا للتحليل؛ حيث إنه في حال كان هناك إجراءات سريعة قد يتراوح التأثير السلبي بحوالي 1.2 % لدى أوروبا مثلا الى 1.8 % في الصين، وفي حال التأخر باتخاذ الإجراءات قد يتراوح التأثير السلبي بين 3.8 % لدى الولايات المتحدة و5.3 % لدى الصين، أما في حال لم يتم القيام بإجراءات إضافية، فإنه من المتوقع أن يتراوح التأثير السلبي بين 7.8 % لدى المملكة المتحدة و15.3 % لدى الصين.
أما على مستوى القطاع المالي، فعلى سبيل المثال، قام بنك انجلترا Bank of England بعمل اختبارات ضاغطة عن أثر مخاطر تغير المناخ، ومستخدماً سيناريوهات تقريباً مشابهة للسيناريوهات أعلاه، وبيان أثرها على البنوك على المدى الطويل وللعام 2050، وبالنتيجة بشكل عام، كان هناك أثر مادي على البنوك من حيث حجم الخسائر التي قد تتحملها تلك البنوك التي تتأخر في تطبيق الإجراءات اللازمة، وبيان القطاعات التي ستتأثر سواء بالمخاطر الناتجة عن التغيرات Transition بالتشريعات والتكنولوجيا وغيرها، أو المخاطر المادية Physical. ومن المتوقع، وفقاً للتحليل، أن يتأثر حجم القروض الممنوحة للقطاعات المختلفة؛ حيث إن البنوك ستغير سلوكها في تمويل القطاعات المختلفة، لتزداد لدى قطاعات أكثر من قطاعات أخرى.
من الناحية التشريعية والرقابية، وللحفاظ أيضاً على المتانة المالية للقطاع المالي، فإن الجهود حثيثة سواء على مستوى المؤسسات الرقابية الدولية مثل لجنة بازل أو على المستوى الإقليمي أو المحلي لدى البلدان المختلفة مثل بنك انجلترا، الفيدرالي الأميركي، المركزي الأوروبي والبنوك المركزية والرقابية المختلفة؛ حيث تبذل هذه المؤسسات الجهود المكثفة ضمن مجالات مختلفة سواء بالعمل على توضيح كيفية القيام بإدارة شاملة للمخاطر، وعمل سيناريوهات واختبارات ضاغطة مختلفة أو تصميم وطلب إفصاحات متنوعة، وبرأيي، فإن البنوك ستبذل جهوداً مهمة في هذا الجانب، إلا أن وجود سياسات وأطر عمل محددة من المؤسسات الرقابية سيكثف الجهود ويمنحها عزماً أكبر في التطبيق وبالمحصلة نتائج أفضل، خاصة في ظل انشغال البنوك في التعامل مع نتائج انتهاء الإجراءات والبرامج المتبعة من الدول للتعامل مع وباء كورونا.
لدى رؤساء المخاطر في البنوك دور مهم في دعم الجهود الدولية لإنشاء اقتصاد يعتمد على انبعاث أقل للكربون، ويمكن أن يتم ذلك من خلال العمل على تحقيق هدفين متكاملين؛ أولهما كيف ستؤثر على استراتيجيات وسياسات البنوك وعملياتها، وثانيهما مساعدة العملاء والمجتمع على التعامل مع إدارة مخاطر هذه التغيرات الحاصلة. وبحيث تحدد البنوك الإجراءات التي يجب أن تتخذها في عملية مواجهة التغير المناخي من خلال قيامها بالتعرف على هذا النوع من المخاطر وعمل التحليل والتقييم والتوصيات اللازمة لتخفيفها والسيطرة عليها، وبالتالي توفير الأرضية الملائمة للبنوك ولعملائها للتعامل مع هذه التغيرات. وفي حين كان التعامل سابقاً مع التغيرات الجوية لدى البنوك ضمن إطار ضمان استمرارية العمل، بدأت مؤخراً تطوير أدوات جديدة لإدارة مخاطر إضافية ناتجة عن تغير المناخ.
ويمكن أن يكون تأثير مخاطر تغير المناخ على البنوك ضمن أشكال عدة؛ أولها مادي Physical وبما يحدث من عواصف، فيضانات، جفاف، حرائق، تغير في مستوى البحار، وما قد ينتج عن أي مما ذكر، مثلا، من تدمير مادي لقيمة الأصول المالية أو الضمانات لدى البنك. وثانيها بسبب التغيرات والتحولات الحاصلة Transition التي تنتج عن التغير في السياسات والتشريعات والتكنولوجيا المستخدمة، التي تغير من طبيعة الطلب لدى المستهلكين أو تحدث مخاطر قانونية، مثال ذلك أن التوجه نحو استخدام السيارات الكهربائية يؤثر على قيمة الأصول المالية التي لها علاقة بالسيارات التي تعتمد على البنزين والديزل مثلاً.
المطلوب من البنوك التركيز في إدارتها لمخاطر تغير المناخ على أمور عدة، أهمها متطلبات الحوكمة، الإفصاحات والتقارير اللازمة، وضع الحدود المقبولة لإدارة المخاطر في مجال مخاطر تغير المناخ، وكذلك تقييم مخاطر التغير في المناخ وأي أجزاء من محفظتها تتأثر أكثر، ووضع أدوات قياس كمي ونماذج مالية لذلك، مع إمكانية الاعتماد لدى بعض البنوك للقياس على نتائج تصنيفات معدة من جهات خارجية. وفي الغالب، فإن البنوك، وفقا للتقييم الذي قام به بنك إنجلترا وقد ينطبق على العديد من دول العالم، بدأت بالعمل ضمن مجال الحوكمة، أما المجالات الأخرى فإنها ما تزال غير متقدمة بها. ومن أهم المحددات التي تقلل من فرص التقدم؛ محدودية توفر بيانات يمكن استخدامها لهذه الغاية في مجالات مختلفة، مثلاً تسعير القروض أو قرارات الإقراض والاستثمار أو بناء وتعديل النماذج المالية اللازمة. وتقوم البنوك بإدارة مخاطر تغير المناخ من خلال عدد من الأدوات والأساليب، سواء استخدام أدوات وبيانات تخص البنك نفسه، أو استخدام معدلات القطاع، أو من خلال التصنيفات الحاصلة من المؤسسات الدولية. وقد تقوم البنوك بتعديل النماذج المالية المستخدمة لديها في تصنيف العملاء داخليا وبما يؤثر على نتائجها المالية. ويثور سؤال هنا، كيف ستقوم البنوك بإدارة متطلبات تغير المناخ الواردة في بازل أو معايير إعداد التقارير المالية، النماذج المالية المختلفة، وهل لديها الموارد، البنية التحتية، المنهجيات والنمذجة المالية؟
نهاية، فإنه لدى البنوك فرصة للمساهمة في بناء اقتصاد صديق للبيئة، وقد يكون من المناسب الدعوة للتعاون بين العاملين بالبنوك والعاملين والمختصين في مجال البيىة وتغير المناخ نظراً لضعف خبرة كل جهة بعمل وفنيات الجهة الأخرى بما يسهم بوضع إطار كفؤ لإدارة مخاطر تغير المناخ لدى البنوك وعملائها.

اضافة اعلان

*عضو منتدى خبراء إدارة المخاطر