التأسيس الرابع: الولايات المتحدة والنظام الليبرالي (2-1)

Untitled-1
Untitled-1

جدعون روز - (فورين أفيرز) عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2019
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

تقديم
قبل عقدين من الزمن، بدا النظام الليبرالي الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة ذاهباً من قوة إلى قوة. والآن، يبدو أن النظام والراعي أصبحا في أزمة معاً، وأصبح المستقبل مفتوحاً على الاحتمالات. وثمة العديد من عناصر القصة -أخطاء عسكرية واقتصادية؛ وركود أصاب الطبقات الوسطى والدنيا في العالم المتقدم؛ وردة فعل عنيفة ضد العولمة؛ وتغير تكنولوجي مذهل- لكن ميزان القوة المتغير ربما يكون أهمها على الإطلاق. وهذا هو السبب في أننا ركزنا هنا على الكيفية التي يحاول بها المهيمن المضطرب، والمنافس الواثق، كتابة الفصل التالي من القصة.
اخترنا أربع نظرات، اثنتان على الولايات المتحدة واثنتان على الصين. وسوف تعرض كلها معاً مجموعة من الاحتمالات لمآلات النظام العالمي في السنوات المقبلة. ويستطيع القراء أن يقرروا ما الذي يجدونه مقنعاً من بينها، بينما ينتظرون صدور الحكم الفعلي للتاريخ في وقت لاحق.
سوف أبدأ هذه الرؤى بعرض أطروحتي الخاصة، التي ترى أن الحديث الشائع عن زوال النظام الليبرالي مبالغ فيه إلى حد كبير. فالنظام الدولي هو النتيجة الراسخة عميقاً لعمل قرن من الجهود الأميركية لترويج نوع أفضل من العلاقات الدولية، والذي حقق من الفوائد قدراً أكبر بكثير من أي بديل آخر. ومن المحتمل أن يحاول الرئيس الأميركي القادم إحياءه بدعم من حلفاء الولايات المتحدة. أما إذا كان بوسع واشنطن أن تحشد الدعم المحلي لانتهاج سياسة خارجية بناءة، فما يزال غير واضح.
في النظرة الثانية، يرى ريتشارد هاس الكأس نصف الكوب فارغ، والذي يبدو أنه يفرغ باطراد. لا يمكن إحياء النظام الدولي؛ ويجب على واشنطن أن تقبل بهذا المصير وأن تركز جهودها على إدارة تدهوره فحسب. وقد أظهر زوال "توافق أوروبا"، وهو آخر الجهود العالمية لبناء النظام، مخاطر الكارثة –وهو يقدم دروساً لصانعي السياسات اليوم من الذين يريدون تجنب حدوثها. وتحتاج واشنطن إلى أن تكون انتقائية في التزاماتها، وإلى تجنب تكرار الأخطاء، والتخلي عن معارضتها بطريقة رد الفعل الانعكساسي الآلي لتعددية الأطراف.
في النظرة الثالثة، يجادل أوريانا سكايلر ماسترو بأن الصين لا تحاول أن تحل محل الولايات المتحدة كمهَيمن عالمي. إنها تحاول فقط أن تضع الضوابط على سلوك الولايات المتحدة على مستوى العالم، بينما تعمل على طردها من مجال نفوذ صيني يجري إنشاؤه في المحيطين، الهندي والهادي. وقد نجحت بكين حتى الآن في تجنب اجتذاب انتباه غير مرغوب فيه ومواجهة غير المرغوب فيها من خلال التركيز بهدوء على الدبلوماسية الإقليمية، وإصدار التهديدات والوعود المنسقة بعناية، ومحاولات التأثير في حلفاء الولايات المتحدة. وبحلول الوقت الذي تولي فيه واشنطن الاهتمام وتستجيب بشكل مناسب، ربما تكون فرصة تجنب الكارثة قد ضاعت.
في النهاية، يقدم يان شو يونغ وجهة نظر من بكين. وحسب رؤيته، اختفت الهيمنة الأميركية المؤقتة لعصر ما بعد الحرب الباردة، وأصبح الطريق ممهداً أمام عودة الثنائية القطبية. ويدرك القادة الصينيون ذلك، لكنهم لم يعملوا بعد على إخراج أي خطط مفصلة لكيفية استخدام قوتهم الجديدة لتشكيل العالم. أما إذا كانت واشنطن تحاول إعادة تشغيل النظام القديم أم غير ذلك، فغير ذي صلة، لأنه لا يمكن القيام به. ينبغي أن يتمكن الردع النووي من الإبقاء على الحرب الساخنة بعيدة، وإنما يجب البحث عن التوترات المتصاعدة والمنافسة الشرسة في المستويات الأدنى.
سنة جديدة سعيدة!

  • * *
    التأسيس الرابع: الولايات المتحدة والنظام الليبرالي
    بدأت الولايات المتحدة كتجربة راديكالية بطموحات عريضة. وقد آمن المؤسسون بفكرة لوك Locke ؛ أن الأفراد الأحرار يستطيعون الهروب من مخاطر الفوضى من خلال الانضمام إلى بعضهم البعض والتعاون لتحقيق المنفعة المتبادلة —وأنشأوا بلداً يُظهر أن هذه الفكرة ليست مجرد كلام. وألزم الموقعون على "إعلان الاستقلال" أنفسهم بمشروع سياسي مشترك، فأسسوا حكومة محدودة لتأمين حقوقهم وتعزيز مصالحهم. وكان هذا العمل، كما أشار وزير الخارجية، جون كوينسي آدامز، في العام 1821، "أول إعلان رسمي تصدره أمة عن الأساس الشرعي الوحيد للحكومة المدنية. كان حجر الزاوية في تكوين نسيج جديد، مقدَّر له أن يغطي سطح الكرة الأرضية كله".
    منذ البداية، فُهِمت الولايات المتحدة على أنها دولة وقضية معاً؛ مجتمع قومي متميز، والحامل المثالي للواء الثورة السياسية العالمية. وسوف يستغرق القدر وقتاً طويلاً حتى يتكشَّف. وإلى أن يفعل؛ إلى أن يتغطى سطح الكرة الأرضية بنسيج من الجمهوريات الديمقراطية، سوف يترتب على هذه الدولة الجديدة الخيِّرة أن تنجو وتتمكن من البقاء في النظام الدولي القديم السيء، "لقرون قادمة على الأرجح"، كما خمَّن آدامز. وإذن، كيف ينبغي أن تتصرف الأمة خلال فترة هذا الانتقال الطويل؟
    بالوصول إلى هذه المشكلة بعد مرور بضعة عقود على بدء التجربة، أدرك آدمز أن الأولويات العليا للجمهورية الوليدة يجب أن تكون حماية الثورة ومحولة الذهاب بالاتحاد إلى الكمال. وهكذا، تماماً كما كان الرئيس جورج واشنطن قد حذّر من مخاطر التحالفات وسياسات توازن القوى، حذر آدامز من مخاطر الحروب والحملات الإيديولوجية. ومع أن الولايات المتحدة تدافع عن مبادئ عالمية، فإنها لا تحتاج دائماً إلى تصدير تلك المبادئ أو تطبيقها في الخارج. ويمكنها بدلاً من ذلك أن تكون "المتمني حسن الطوية لحرية واستقلال الجميع" بينما تكون "البطل والمدافع" عن حريتها واستقلالها الخاصين فحسب.
    كانت الاستراتيجية الأميركية الكبرى التي ظهرت في تلك الحقبة -القائمة على التوسع القاري والتنمية الداخلية، مصحوبين بالانطواء المتعالي على الذات وبعيداً عن العالم الخارجي- تناسب جمهورية تجارية قصية منزوية عميقاً في هوامش العالم. ومع ذلك، استطاعت هذه الاستراتيجية أن تنجح فقط لأن الولايات المتحدة كانت محمية بالجغرافيا والتفوق البحري البريطاني. وكان نهوض البلاد الطويل خلال القرن التاسع عشر ممكناً بفضل البيئة الخارجية الهادئة، وهي منفعة عامة وفرها المهيمن الليبرالي في ذلك الوقت.
    بحلول القرن العشرين، تغيرت الأمور. تراجعت القوة البريطانية؛ وتصاعدت القوة الأميركية. وأصبحت الولايات المتحدة تهيمن الآن على نصف الكرة الأرضية الغربي، وتسيِّر دوريات تذرع المحيطات، وتوجه الاقتصاد العالمي. واحتاجت إلى استراتيجية كبرى جديدة تتناسب مع وضعها الجديد. كانت المصالح الأميركية تُخدم في يوم من الأيام بالنأي عن العالم. والآن دعت خدمة تلك المصالح نفسها إلى التعاطي معه. ولكن، أي نوع من التعاطي كان ممكناً لدولة مبنية على رفض أساسي للعبة القديمة؟
    بعد بعض التجارب، وعلى مدار القرن، برزت الإجابة تدريجياً، باندفاعات غير منتظمة، وعن طريق التجربة والخطأ. وبدت الإجابة مألوفة بشكل غريب: خذ الدروس المستفادة من تأسيس البلد محلياً وقم بتطبيقها على سياسته الخارجية، مع حمل منطق العقد الاجتماعي إلى المستوى التالي. وإذا استطاع الأفراد المتمتعين بالحكم الذاتي في الحالة الطبيعية العثور على طرق للتعاون من أجل تحقيق المنفعة المتبادلة، فلماذا لا تستطيع الدول المستقلة أن تفعل الشيء نفسه؟ ليس عليها أن تحب واحدتها الأخرى أو أن تتصرف مثل قديسين؛ إنها بحاجة فقط إلى بعض المصالح المشتركة وإلى التعامل مع مفهومٍ للعبة ذات حاصل إيجابي. وكلما مارست دول أكثر مثل هذه الألعاب، كلما زادت فرصها في الاستفادة من التعاون كما تفعل من الصراع. وبالتدريج، يمكن أن تتحول التفاعلات إلى علاقات ثم إلى مجتمعات -أولاً وظيفية، ثم مؤسسية في نهاية المطاف، بل وربما مخلصة وقلبيّية في يوم من الأيام.
    وعد هذا النهج بحل التوتر بين المصالح الأميركية والمثل الأميركية عن طريق تحقيقها جميعاً في وقت واحد، وبالتدريج. سوف تحمي الولايات المتحدة مصالحها من خلال تكديس القوة واستخدامها عند الضرورة؛ وسوف تخدم مُثُلَها من خلال تغذية ورعاية مجتمع دائم النمو من الدول المستقلة التي تعمل بلطف مع بعضها البعض. والتعاون سيفضي إلى التكامل والازدهار، الأمر الذي سيؤدي إلى التحرير liberation. وببطء -وإنما بثبات- سوف يخرج عالم لوك من عالَم هوبز Hobbes.
    أنتجت الاستراتيجية الكبرى الجديدة تلك الشبكة الكثيفة من التفاعلات المتبادلة الحميدة المعروفة الآن باسم النظام الدولي الليبرالي. وقد تطور هذا النظام على ثلاث مراحل. حاول الرئيس وودرو ويلسون في البداية تأسيسه بعد الحرب العالمية الأولى. وفشل، لكنه قدم لخلفائه نموذجاً وبعض الدروس التحذيرية. وحاول الرئيسان فرانكلين روزفلت وهاري ترومان مرة أخرى أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وهذه المرة، شرع النظام في اتخاذ شكل، في جزء من العالم على الأقل. ثم قام الرئيسان جورج دبليو بوش الأب وبيل كلينتون بإعادة تأسيسه في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وعملا على توسيعه وبسطه من الغرب إلى بقية العالم.
    عندما يتبين أن الترتيبات التعاونية التي تم تطويرها في إحدى الفترات أصبحت غير مناسبة للفترة التالية، فإن تقدم النظام إلى الأمام يتوقف، وتنتشر مشاعر التشاؤم. في الماضي، دفعت المنافع الواضحة للتعاون المستمر الأجيال الجديدة إلى خلق ترتيبات جديدة في نهاية المطاف، حتى تستمر الأوقات الجيدة في التدحرج. أما إذا كان هذا النمط سوف يستمر، فما يزال غير واضح.
    في العام 2016، أسدل الناخبون في المدار الناطق بالإنجليزية الستار على المرحلة الثالثة من تاريخ النظام مع اختيار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي "بريكست" وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وعلى مدار عامين، انجرف العالم. وتقول الفكرة السائدة أن النظام العالمي قد انتهى، وأنه فشل، وأنه كان دائماً فكرة خيالية ساذجة أو ظاهرة عارِضة لقوة فائضة مؤقتة.
    ومع ذلك كله، ما يزال النظام يتحرك. ما تزال الرؤية الأساسية للنظام حول إمكانية تحقيق مكاسب متبادلة من التعاون الدولي الطوعي والقائم على القواعد سليمة ودقيقة. وقد اشترت معظم دول العالم المشروع، وهي تريد أن تظل ملتزمة به. ولا يوجد أي نهج بديل يقدم نفس القدر من الفوائد، وينطوي معظم البدائل على مخاطر جسيمة -لكل من الولايات المتحدة والعالم ككل. ولذلك، من المرجح أن تكون الفكرة السائدة خاطئة، ومن شبه المؤكد أن الإدارة التالية بعد إدارة ترامب سوف تتراجع إلى الخلف بعض الشيء وتحاول إعادة إنعاش النظام مرة أخرى أيضاً.
    سوف يكون تأسيس رابع للنظام الدولي الليبرالي صعباً. لكن بالوسع فعل ذلك ويجب القيام به، لأن المخاطر بخلاف ذلك كبيرة. والفكرة هي أنه سيتطلب التزاماً مخلصاً من القوة المهيمنة في العالم بالقيادة بدلاً من الفوز.
    التأسيس الأول
    عندما اندلعت الحرب العظمى، في العام 1914، اندفعت الولايات المتحدة غريزياً إلى الاختباء. كان ذلك هو الكتاب الإرشادي القياسي للقرن التاسع عشر: ليس مشكلتنا. ومع ذلك، لم يدم هذا المبدأ طويلاً في القرن العشرين، لأن البلد كان قد أصبح قوياً للغاية بحيث لا يمكن تجاهله. وبينما استقر القتال في أوروبا على حرب استنزاف طاحنة، اعتمدت النتيجة بشكل متزايد على وصول الحلفاء في أوروبا إلى الاقتصاد الأميركي. ولذلك، في العام 1917، حاولت ألمانيا قطع حركة الشحن عبر المحيط الأطلسي، وتم تصميم حرب غواصات مفتوحة وغير مقيدة للضغط على الحلفاء وإجبارهم على الخضوع. لكنها بدلاً من ذلك، جرت الولايات المتحدة إلى الحرب، ومعها العالم، إلى الأبد.
    بينما يراقب المذبحة كطرف محايد، رفض ويلسون تطبيعها. كانت قناعة ويلسون أن كل مشروع الحرب شرير جملة وتفصيلاً، وليس مجرد أي طرف ينطوي على نزوع حربية. كانت المشكلة الأساسية هي المنافسة التي لا تعرف الرحمة من أجل المزية، والذي اعتبرته جميع الدول الأوروبية سلوكاً طبيعياً للسياسة الخارجية. وكان يجب أن تتغير هذه العقلية جميعاً. وهكذا، من الهوامش، دعا ويلسون المتحاربين إلى إعلان نتيجة الحرب المستعصية التي وصلت طريقاً مسدوداً تعادلاً والانتقال إلى نوع جديد من نظام ما بعد الحرب، والذي يستند إلى الأمن الجماعي بدلاً من المصلحة الذاتية التنافسية.
    وبعد ذلك بفترة وجيزة، بدأت ألمانيا بقصف جميع السفن الأميركية التي يمكن أن تجدها في طريقها بالطوربيدات. وأقنع ذلك ويلسون بأن رؤيته لا يمكن أن تتحقق ما لم يتم إصلاح ألمانيا من الداخل إلى الخارج. ولذلك، عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب، فإنها لم تكن تسعى فقط إلى تكوين نظام أمن جماعي لما بعد الحرب، وإنما سعت أيضاً إلى إسقاط "الأوتوقراطية البروسية".
    اعتقد ويلسون أن تغيير النظام كان ضرورياً لأنه لا يمكن الوثوق بالدكتاتوريات للمشاركة في نظام الأمن الجماعي الذي يفكر فيه. واعتقد وزير خارجيته، روبرت لانسينغ، أن الديمقراطيات ستكون أقل ولعاً بالحرب بشكل عام. وخططت الإدارة لتعزيز سلامها المؤسسي الديمقراطي بنظام تجاري دولي مفتوح، بحيث تعمل التفاعلات التجارية الحميدة على جمع العالم معاً بالتدريج للعيش في سلام ورخاء. (أما أن تلك التجارة الحرة ستعود بالفائدة على الولايات المتحدة المهيمنة أكثر ما يكون، فحقيقة غنية عن البيان).
    وهكذا، كان يجب تغيير الأمن الدولي، والاقتصاد الدولي، والسياسات الداخلية في الخارج –كلها جميعاً- قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من أن تصبح آمنة. لكنها عندما تصبح كذلك، فكذلك سيكون العالم أيضاً. كانت هذه رؤية لما بعد الحرب، كبيرة بما يكفي لتبرير مذبحة الحرب. لكن تحقيقها سيكون مرتقى صعباً مع ذلك. كان ويلسون بحاجة إلى وقوف بلده خلفه أولاً، والإبقاء على البريطانيين والفرنسيين تحت السيطرة، وإعادة ألمانيا مستعادة خضعت للدمقرطة إلى معادلة التوازن الأوروبي. وربما كانت لدى تاليراند أو بسمارك الفرصة؛ لكنها لم تكن لدى ويلسون.
    في ذلك الحين، وضع البريطانيون والفرنسيون المساعدة الأميركية في جيوبهم خلال الحرب، وقدموا خدمة كلامية لمكامن إيمان ويلسون، واستمروا في السعي إلى تحقيق مصالحهم الفردية على المدى القصير، تماماً كما كان الأمر من قبل. وتبين أن الشعب الأميركي لم يكن يريد هدنة متفاوضاً عليها وتوازناً للقوة فيما بعد الحرب، وإنما أراد استسلاماً كاملاً ونوعاً من المعاملة القاسية لألمانيا الذي حاول ويلسون أن يجنبه بالضبط. ثم، عندما صمتت المدافع، انهار نظام القيصر، ليعقبه في النهاية خلف ديمقراطي ضعيف وغير مستقر وغير قادر على الدفاع عن نفسه في الداخل أو في الخارج. وقد استفاد البريطانيون والفرنسيون بسعادة من الوضع، وفرضوا في فرساي تسوية أكثر قسوة وعقاباً من التي أرادها ويلسون -أو من التي شعر الألمان بأنهم وُعدوا بها، وذهبت الأمور إلى السوء من هناك.
    وهكذا، كانت المحاولة الأولى لتأسيس النظام الدولي في ورطة بحلول نهاية العام 1918، ثم أصبحت تعيش على أجهزة دعم الحياة بحلول نهاية العام 1919، وتوفيت ببطء وبشكل مؤلم في السنوات التالية.
    المحاولة الثانية
    بدا أن فشل ويلسون يؤكد الحكمة التي انطوى عليها تفكير أدامز. وهكذا، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عادت الولايات المتحدة للنظر إلى الداخل من جديد. ومع ذلك، تماماً كما حدث من قبل، جعلت حقائق القوة هذا المسار غير عملي. لقد أثرت أقوى دولة في العالم بالضرورة، وتأثرت أيضاً بما يحدث في كل مكان آخر. وكان الانكماش والارتداد إلى العزلة الآن أشبه بطفل يضع رأسه تحت غطاء: إنه يجعل الأمور تبدو أفضل، لكن العالم الخارجي لا يختفي.
    من المؤكد أن القوى العظمى الأخرى عادت، في غضون جيل، إلى حيلها القديمة، وسعت إلى تحقيق مصالح فردية قصيرة المدى، وأفقرت جيرانها، وما شابه. وأدى ذلك إلى دوامة من عدم الثقة، والضراوة، والإحباط والحرب. وفي العام 1941، مثلما حدث في العام 1917، تعرضت الولايات المتحدة للهجوم وتم جرها إلى الحرب لأنها كانت أكثر قوة من أن يتم تجاهلها. ومرة أخرى، بعد أن أوقظت من سباتها الجيوسياسي واتجهت إلى النصر، ترتب على واشنطن أن تقرر ما ستفعله بعد ذلك.
    كانت إدارة روزفلت ممتلئة بالويلسونيين المحزونين. وقد استمر هؤلاء في الاعتقاد بأن أفضل طريقة لحماية المصالح الأميركية هي استخدام القوة الأميركية لتحويل السياسة الدولية. وإذا كان ثمة شيء، فقد أصبحوا يؤمنون بذلك بحماسة أكبر من ذي قبل، بالنظر إلى ما حدث منذ ذلك الحين. ومع ذلك، بعد أن فسدت المهمة مرة، أدركوا أنهم سيضطرون إلى تأجيل اللعبة للمرة الثانية.
    توافقوا فيما بينهم على الأشياء التي حدثت خطأ. أرادت إدارة ويلسون أن تكون ناعمة على ألمانيا والمشعوذشديدة على روسيا. وسمحت للمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا بعقد اتفاقيات سرية والاحتفاظ بأهداف الحرب المتعلقة بالمكتسبات الذاتية. وانتظرت إلى ما بعد انتهاء الحرب لتشكيل عصبة الأمم، وصممتها بشكل سيء، وفشلت في تأمين موافقة الكونغرس على المشاركة الأميركية. وبسبب هذه الأخطاء، انكسر التحالف الانتصاري في زمن الحرب، وتعثرت العصبة، وعمقت الحواجز التجارية الكساد، وفي النهاية نهضت ألمانيا الاستبدادية وجرَّت العالَم مرة أخرى إلى دوامة وحشية.
    وقف هذا الكابوس المشهود خلف عمل مجمع التخطيط الأميركي لنظام ما بعد الحرب. وهذه المرة، كما جرى التفكير، سوف تخضع ألمانيا وقوى المحور الأخرى المهزومة للاحتلال والدمقراطة. وسوف يتم خطب ود الاتحاد السوفياتي. وسوف يتم إنشاء عصبة أفضل تصميماً خلال الحرب، وبمشاركة أميركية من البداية. وفي نهاية المطاف، سيتم الحفاظ على تناغم وازدهار حقبة ما بعد الحرب بمزيج من السلام الديمقراطي، وتناغم القوى العظمى، والتعاون المؤسسي متعدد الأطراف، والتجارة الحرة.
    بحلول أوائل العام 1945، بدا أن الإطار الجديد أصبح عاملاً إلى حد كبير. وقد تُركت بعض الأشياء، مثل وضع ألمانيا المستقبلي، من دون قرار لأن روزفلت أراد الأمور بهذه الطريقة. (كان يحب أن يرتجل). لكن الفجوات المتروكة لم تكن حاسمة. وعلى الرغم من أن الرئيس كان قلقاً إلى حد ما بشأن السلوك السوفياتي في أوروبا الشرقية ومن الانتقال من اقتصاد زمن الحرب إلى اقتصاد زمن السلم، فقد توفي في نيسان (أبريل) من ذلك العام وهو على ثقة من أن آماله سوف تتحقق.
    في واقع الأمر، كان ثمة الكثير من المشاكل الكبيرة التي تلوح في الأفق، وليس أقلها كيفية الوفاء بالوعود المتضاربة التي بذلها المشعوذ الكبير للدوائر الانتخابية المختلفة. ولأن روزفلت لم يكن قد سمح بالتخطيط للخلافة، فقد وقعت مهمة تنفيذ برنامجه الطموح لعالم ما بعد الحرب القائم فعلاً على عاتق خلفه، ترومان. وكانت المهمة صعبة.
    كانت المملكة المتحدة أضعف المتوقع، وسرعان ما تخلت عن التزاماتها العالمية المتبقية. وكانت أوروبا في حالة خراب، وكانت القومية الثورية في صعود، وكان السوفيات يتصرفون بعدوانية وبلا رحمة، وكان الجمهور الأميركي يتحول بسرعة إلى النظر نحو الداخل مرة أخرى. وبعد عامين من مشاهدة الوضع يتدهور، قررت واشنطن تغيير المسار، فوضعت جانباً الإطار المؤسسي العالمي الشامل الذي أنشأته للتو، وبنت في مكانه واحداً أصغر وأكثر عملية. وهكذا تم استكمال نظام بريتون وودز بمبدأ ترومان، وخطة مارشال، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) -مجموعة جديدة من الترتيبات المصممة لإحياء وحماية مدار نفوذ أميركي يدار على أساس القواعد الليبرالية.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Fourth Founding: The United States and the Liberal Order