التحرير 2.0: هل يأتي ربيع عربي آخر؟

وعد الربيع العربي في 2011 الشباب بالحرية والازدهار والأمل - (أرشيفية)
وعد الربيع العربي في 2011 الشباب بالحرية والازدهار والأمل - (أرشيفية)

كريستوفر ديكي – (الديلي بيست) 4/10/2018

 ترجمة: علاء الدين أبو زينة

باريس – أولئك منا الذين عاشوا الأيام الطويلة والليالي الأطول في ميدان التحرير القاهري في العام 2011، في تلك الساعات الأولى مما أصبح يدعى "الربيع العربي"، يتذكرون الإثارة، والحماس، والأمل التي ملأت الهواء مثل العبق الأخاذ لأطواق الياسمين التي تباع في شوارع القاهرة. لكن الأمل، مثل تلك الزهور الرقيقة، سرعان ما ذوى، وذبُل، وألقي به في الغبار. والآن يتساءل المرء عما إذا كان ذلك التفاؤل الذي وسمَ تلك اللحظة يمكن أن يستعاد أبداً.اضافة اعلان
في غضون أشهر من تلك الانتفاضات الشعبية الأولى، تحول "الربيع العربي" إلى شتاء وحشي طويل. حلت دكتاتوريات جديدة محل القديمة في بعض أجزاء الشرق الأوسط. وسقطت بلدان أخرى في دوامات الفوضى والعنف التي دفعت بملايين اللاجئين عبر الحدود –وليس إلى المنطقة فقط، وإنما إلى أوروبا الغربية أيضاً.
ثم، في أواسط العقد، جاءت ما تدعى "الدولة الإسلامية"، وكأنها انبثقت من العدم، لتغزو وتحتل أجزاء كبيرة من سورية والعراق.
كما كتب الباحث غيليس كيبل في كتابه الجديد "ما وراء الفوضى" الذي سيُنشر في فرنسا هذا الشهر، سرعان ما أصبحت التطلعات والنشوة التي صاحبت الربيع العربي "رهائن" لدى الجهاديين، عندما نشر "داعش" نفوذه "من بلاد ما بين النهرين إلى الضواحي الأوروبية المهمشة".
ألهم "داعش"، أو وجّهَ الهجمات الإرهابية من باريس إلى أورلاندو، ومن سان بيرناردينو إلى برلين، مطلقاً العنان لكراهية غريزية للأجانب، ولخوف قاهر في أوروبا والولايات المتحدة، ومانحاً الطاقة لمحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في مشهد السياسة الغربية، التي ساعدت في سلخ المملكة المتحدة عن القارة، ودفعت بدونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
اليوم، بعد سفك الدماء الهائل، تبين أن "داعش" الذي اتخذ من عبارة "ابق حيا وتوسّع" شعاراً له، لم يكن قادرا على تحقيق أي من الأمرين. وظهر أنه لا يعدو كونه مجرد مجموعة عابرة من المقاتلين الفارين، الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة في زاوية صغيرة من سورية، مع القليل من البؤر المتباعدة الموزعة من نيجيريا إلى أفغانستان. كما أصبح له أيضاً حضور مختزل جداً في ميدان المعركة الكبير الآخر، الإنترنت.
تحوّلُ المسجد في الموصل العراقية، حيث أعلن زعيم "داعش"، أبو بكر البغدادي، نفسه خليفة لإمبراطورية ثيوقراطية جديدة في صيف العام 2014، إلى أنقاض في صيف العام 2017. وعلى المئذنة المهدومة، سرعان ما نقض أحدهم "اللعنة على داعش".
ولكن، بينما تم سحق التهديد الذي شكله "داعش" نتيجة للعمل المنسق الذي أنجزه تحالف عريض، قادته أولاً إدارة أوباما ثم ترامب، لم يجلب أفول التنظيم شبه النهائي السلام إلى المنطقة، وما يزال هناك احتمال كبير بأننا نتجه نحو دوامة أخرى من العنف المدمر.
إن ما نراه الآن، باستعارة العبارة المكرورة لصامويل هنتنغتون، هو صراع حضارات. لكنه في جوهره، كما يشير كيبل، ليس صراعاً بين الغرب والإسلام، وإنما يدور في داخل الإسلام نفسه: الصراع بين السنة والشيعة، الذي يعود تاريخه إلى معارك الخلافة في أعقاب وفاة النبي محمد قبل أكثر من 1.300 عام.
كانت هذه القسمة القديمة، في الحقيقة، هي التي استغلها "داعش" ومنظمات الإرهاب التي سبقته في العراق، وفاقتهما بهذا النجاح المذهل. وقد شرعت هذه المنظمة أولا، تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، في محاربة المحتلين الأميركيين بعد الإطاحة بصدام حسين في العام 2003. لكن العدو الأكبر للزرقاوي -ثم لاحقاً لوريثه، أبو بكر البغدادي- لم يكن الولايات المتحدة، وإنما كان إيران الشيعية والحكومات المرتهنة لطهران في دمشق وبغداد.
مع ذلك، كان "داعش" مجرد عرَض صارخ لهذا الصراع الذي يميّز الحِقبة، وليس المرض نفسه. واليوم، مع تحييد "داعش"، يمكن النظر إلى الانقسام السني-الشيعي بوضوح أكبر بحقيقته كما هي: أنه الإطار والذريعة للعداوات الوطنية التي تزداد مرارة وخروجاً عن السيطرة، مع وقوف المملكة العربية السعودية وحلفائها ضد الجمهورية الإيرانية وعملائها من الشيعة والعلويين السوريين.
على مدى سنوات الآن، خاضَ الطرفان حروباً رهيبة بالوكالة في ميدان المعركة السوري المعقد، وفي اليمن القبَلي بعُمق، وبتكلفة هائلة على الناس في كلا البلدين. لكن ثمة القليل من الإشارات على أن الإيرانيين أو السعوديين سيتراجعون. بل إنهم بعيدون كل البعد عن ذلك.
في وقت سابق من هذا العام، استبعد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أي فرصة للمصالحة مع إيران، ورسم الصراع بعبارات ثيولوجية صارخة. إن هدف طهران النهائي، كما قال، هو انتزاع السيطرة على مكة، أقدس مواقع الإسلام. وأعلن ولي العهد في مقابلة تلفزيونية مطوّلة: "لن ننتظر حتى تأتي المعركة إلى السعودية. بدلاً من ذلك، سوف نعمل على أن تكون المعركة بالنسبة لهم في إيران، وليس في السعودية".
وقال محمد بن سلمان أنه إذا استأنفت إيران برنامجها النووي –وهو ما جعلته أكثر احتمالاً جهود إدارة ترامب التي تدعمها المملكة العربية السعودية لتدمير الاتفاق الذي جمد البرنامج- فإن السعودية ستسعى إلى تأسيس برنامجها النووي الخاص أيضاً. وللسجل، زعم ولي العهد السعودي، كما تزعم إيران، بأن البرنامج سيكون لأغراضٍ سلمية بحتة.
في الأثناء، يقوم البلدان، وفق كل المؤشرات، بتنفيذ عمليات سرية ضد خصومهما وضد بعضهما البعض. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، تم اعتقال عملاء مزعومين لإيران في أستراليا، وبلجيكا وفرنسا، على أساس مشاركتهم في مؤامرة لتفجير مسيرة لمجموعة معارضة بالقرب من باريس، حيث كان رودي جيولياني وآخرون سيتحدثون. كما أغلقت الولايات المتحدة قنصليتها في البصرة، المدينة العراقية الجنوبية، تحسباً لهجمات محتملة مدعومة من إيران. وفي الغضون، ضربت مجموعة إرهابية سنية عرضاً عسكرياً في مدينة الأهواز الإيرانية، وقتلت نحو 25 شخصاً قبل مقتل المهاجمين الخمسة. وادعت فلول "داعش" المسؤولية عن الهجوم، لكن الإيرانيين حملوا المسؤولية للسعودية وداعميها الأميركيين.
في مثل هذه البيئة المشحونة، يخيّم تهديد مقيم من احتمال أن يفضي سوء تقدير أو خطأ في الحسابات إلى فتح وتصعيد الحرب. والإدارة الأميركية، بدعمها المطلق للسعوديين وعدائها الذي هوادة فيه تجاه إيران، لم تختر الانحياز إلى جانب فحسب، وإنما وضعت نفسها وسط حمأةِ الصراع، وهو موقف سيتركها تحت ضغط هائل للتورط عسكرياً إذا ما اندلعت حرب مفتوحة.
وإسرائيل، التي كانت ذات مرة في مركز كل النقاشات عن الحرب والسلام في الشرق الأوسط، بنت تحالف مصلحة غير سرّي كثيراً مع دول عربية سنية، مركزة على الكراهية المتبادلة لإيران.
ومن جهتها، استخدمت روسيا الحرب السورية للمساعدة في إعادة تأسيس نفسها كقوة عالمية، ولعبت في ذلك لعبة الأصدقاء والأعداء المعقدة في الشرق الأوسط ببراعة، إلى درجة أنه يقال في بعض الدوائر أن بوتين لا بد أن يكون مسلماً، بما أن له أربع زوجات: إسرائيل؛ والسعودية؛ وإيران وتركيا. ومع أن التحالفات والعداوات تتحوُّل بين هؤلاء الأربعة في كثير من الأحيان، فإنّ بوتين يستغلهم جميعاً.
لا شيء من هذا يقدم أي خير للناس في المنطقة. ولكَ أن تسألَ فقط عائلات أولئك الذين ذُبحوا في سورية بالقنابل الروسية.
ولكن، أما مِن طريقة للخروج من هذه الدوامة الخطيرة المستمرة؟
إذا نظرنا بعناية إلى ما حدث في الربيع العربي، الوجيز كما كان حاله، فربما نعثر على دروس يمكن تعلُّمها، وعلى بعض من بصيص تفاؤل.
عادة ما يتم تعقب الثورة ضد النظام القديم في الشرق الأوسط المسلم إلى الغضب الشعبي الذي انفجر في تونس، بعد أن قام بائع خضار، محبط ومهان، بإشعال النار في نفسه في كانون الأول (ديسمبر) 2011. وبحلول وقت وفاته في كانون الثاني (يناير)، كان حاكم تونس يفقد قبضته على السلطة، وشرعت الاضطرابات السياسية في الانتشار شرقاً، في موجة بطيئة –وإنّما التي لا يمكن وقفها- من العاطفة والسخط، والتي بدا أنها ستجتاح الدكتاتوريات والسلالات الحاكمة المتشبثة منذ عقود وتطيح بها من السلطة، من ليبيا إلى مصر إلى سورية وما بعدها.
أخذت موجة الاستياء الحكومات، والدبلوماسيين والصحفيين، بالمفاجأة. حتى أن الإرهابيين صُعِقوا بدورهم أيضاً: تنظيم القاعدة، الذي كان قد هيمن على السرد السياسي لعقود، بدا فجأة غير ذي صلة في وجه الانتفاضات العربية السلمية الكبيرة التي بثتها شاشات التلفزة في كل أنحاء العالم.
لدى النظر إلى الوراء، بطبيعة الحال، كان ينبغي أن نرى هذا قادماً. كان الجميع يعرف أن الغالبية العظمى من الناس في الشرق الأوسط لم يكونوا قد بلغوا عمر 30 عاماً بعد. وفي العديد من البلدان، كان متوسط الأعمار لا يتجاوز سن المراهقة. وشعر الكثير من الشباب، إن لم يكن معظم، بأنهم محبَطون ومهانون تماماً مثل بائع الخضار في تونس.
وكان الكل يعرفون، أيضاً -لأن ذلك كان حتمياً- أنّ منطقة حيث كانت المعلومات خاضغة للسيطرة الصارمة، اختبرت ثورة اتصالات في التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، بدءاً بمحطات أخبار الأقمار الاصطناعية، ثم الإنترنت، وأخيراً -الأكثر أهمية وعالمية: الهواتف المحمولة.
لم يعد الشباب في المنطقة العربية مجرد أغلبية فقط، ولم يعودوا محبطين فقط؛ أصبحوا متصلين ببعضهم البعض وبالعالم كما لم يكن أي من آبائهم في أي وقت. وجعل هذا التقارب الديمغرافي والرقمي المستحيل يبدو فجأة ممكناً. في مصر، وبلا سؤال، تلقت التظاهرات في ميدان التحرير المكشوف الإلهام من الروايات عن انتهاكات الشرطة التي انتشرت على "فيسبوك".
بدا لوهلة أن تغييراً كبيراً في حياة ومستقبل شعوب الشرق الأوسط أصبح وشيكاً؛ واحداً انطوى على وعد الحرية والازدهار. ولم تكن مثل هذه الآمال مقصورة على العرب.
قبل عام ونصف من الاحتجاجات في ميدان التحرير، كان الإيرانيون قد تدفقوا على شوارع طهران للاحتجاج على إعادة الانتخاب المزورة للرئيس محمود أحمد نجاد، الشعبوي الإيراني اليميني الذي بدد ثورة الأمة، وشن حملة قاسية على الحريات الشخصية، وحاول تأمين مستقبله السياسي بكل الطرق.
كان نطاق المطالب الشعبية في إيران محدوداً. ولم يكن من المرجح أن يقوم المرشحون الآخرون الآخرون -لو أنهم انتُخبوا- بتغيير النظام الديني الشيعي الإيراني. ولم يكن معظم الإيرانيين –الذين يحملون ذكريات قاتمةٍ عن ثورة 1979- مستعدين لاختبار ثورة أخرى. لكنهم أرادوا أن تكون ديمقراطيتهم شيئاً أكثر من مجرد خدعة كاملة. وأرادوا لتصويتهم وأصواتهم أن تؤثر. وقد هزت التظاهرات الجماهيرية أركان النظام، وقوبلت بالقمع الوحشي، وسُحقت في نهاية المطاف. لكنها أظهرت القوة الكامنة التي تنطوي عليها الاحتجاجات التلقائية.
وكان ينبغي أن تكون قد أظهرت المخاطر أيضاً، عندما تكون الاحتجاجات الجماهيرية مفتقرة إلى التنظيم الكافي. وفي ميدان التحرير القاهري، ساد قدر كبير من الحديث المتفائل في الأيام الأولى عن التعهيد الجماعي لقيادة الانتفاضات. ولكن، في حين أن الحشود تستطيع أن تقيم تظاهرات مؤثرة، فإنها ليست مؤهلة لقيادة الثورات في وجه كل القوى الرجعية التي تطلقها هذه الثورات.
في مصر، تسببت الحشود في الإطاحة بحسني مبارك، لكن الانتهازيين المنظمين للغاية –جماعة الأخوان المسلمين والجيش المصري المعنيّ بصيانة مصالحه العميقة- سرعان ما تنافسوا على السيطرة، تاركين المنتفضين المثاليين لمصائر اليأس، أو السجن، أو الموت.
كما كتب حسين آغا وروبرت مالي بعد بضعة أشهر لاحقاً، فإن اليوم الذي أجبر فيه مبارك على التنحي، 11 شباط (فبراير) 2001، "كان ذروة الثورة العربية. وفي 12 شباط (فبراير)، بدأت الثورة المضادة".
في ليبيا، كافح الطاغية معمر القذافي للتشبث بالسلطة، وربما كان ليتمكن من الصمود لو لم يتدخل الفرنسيون والأميركيون. وفي سورية، تمكن بشار الأسد من النجاة بسجن وتعذيب وذبح مئات الآلاف من الناس.
يجب أن تكون أي ثورات جديدة، إذا كانت انتفاضات شبابية في قالب ليبرالي آمِل من النوع الذي رأيناه بداية في ميدان التحرير، قد نمت في الوطن، وأن تكون جماهيرية، لكنها لا يمكن أن تكون ناقصة. وربما تكون قياداتها منتخبة، وإنما لا يمكن أن تعمل بالتعهيد الجماهيري. وسيكون عليها أن تبني منظمات يمكن أن تتحدث نيابة عن الجماهير، وإنما التي تستطيع أيضاً توجيه قوة هذه الجماهير.
وسوف يفعل الدكتاتوريون كل ما في وسعهم لإحباط هذه الثورات. ولو أنهما بذلا قدراً أكبر من الطاقة، لكان الرئيس التونسي بن علي أو المصري حسني مبارك سيتمكنان من احتواء الانتفاضات في العام 2011. ولكن، باستعارة عبارات جيم ماريسون، كان المسنون هم الذين يملكون البنادق، وكان الشباب يملكون الأعداد. وسوف تأتي لحظة تُحدِث فيها هذه الأمور فارقاً.
على المدى القريب، كما يقترح كيبل، ربما يكون العراق –بعد طغيان صدام حسين، والحماقة المتغطرسة للغزو الأميركي، والمذبحة المروعة للحرب الأهلية، والصعود المروع لـ"داعش"- أفضل الأماكن وأكثرها صلةً للشروع في إعادة البناء. وسوف تكون إعادة إعمار الموصل، -التي ظلت لقرون واحدة من أكثر المدن حضرية في الشرق الأوسط، مع خليط من السكان السنة، والأكراد والمسيحيين- مكاناً جيداً لمحاولة البدء.
بالنسبة لي، بعد هذا العَقد الوحشي، آمل أن تتمكن مصر، حيث كنتُ قد عشت لعدة سنوات، من العثور على طريقها للخروج من القبضة الحديدية للقيادة العسكرية الحالية، وأن تعود إلى نوع من الروح التفاؤلية الغامرة التي رأيناها جميعاً في الأيام الأولى للتظاهرات في ميدان التحرير.
ثمة العديد من الطرق لتقول "صباح الخير" بالمحكية المصرية، إحداها "صباح الفل"، التي تتمنى لك صباحاً بعبق الياسمين. ذلك، وهواء الحرية، والازدهار والأمل، ليست أقل مما يستحقه الشعب المصري.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Tahrir 2.0: Will There Be a Second Arab Spring?