التحولات في مراكز الطاقة العالمية وتداعياتها الجيوسياسية المحتملة

أرشيفية
أرشيفية

لهب عطا عبدالوهاب*
إن علاقات الطاقة الدولية عبر السنوات الخمسين الماضية كانت تحكمها "ثنائية قطبية" تتجلى في العلاقة بين الدول المنتجة في دول الشرق الأوسط (الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بالاضافة إلى العراق وإيران) من ناحية، والدول الصناعية المستهلكة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من ناحية أخرى.اضافة اعلان
هذه "الثنائية" تواجه اليوم تحديات كبيرة نتيجة لتضافر العديد من العوامل الاقتصادية والتكنولوجية والبيئية. وقد أفضت هذه العوامل إلى "ولادة" مراكز طاقة جديدة إذ ظهرت في السنوات الأخيرة مراكز استهلاك جديدة في جنوب وشرق آسيا، ناهيك عن أن تراجع الطلب على الطاقة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا قد أدى إلى تحول البوصلة في خريطة الطاقة العالمية نحو الشرق.
إن هذه الرؤية تعزز منها لغة الأرقام، إذ وفقاً لبيانات وكالة الطاقة الدولية IEA فإن الدول خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ستستحوذ على 93 % من معدل النمو في الطلب على الطاقة للفترة بين 2008 وحتى 2035، ومن المتوقع أن تشهد قارة آسيا تضاعفاً في طلبها على الطاقة خلال الفترة ذاتها، في حين أن الصين والهند بمفردهما ستستحوذان على الثلث والخمس من الزيادة في الطلب العالمي على التوالي.
في المقابل، فان حصة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من الاستهلاك العالمي للطاقة التي بلغت 70 % العام 1965، هذه الحصة مرشحة للانخفاض لتصل إلى 40 % بحلول العام 2035.
إن الانخفاض في استهلاك الطاقة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والاقتصادي والتنمية، مقروناً بالزيادة في الانتاج المحلي من النفط الخام في الولايات المتحدة والدول الاخرى في نصف الكرة الغربي قد أفضى إلى تسريع التحول الكبير في توجه التدفقات النفطية من الغرب إلى وجهة شرقية آسيوية، والتي ستصبح مركز الاستقطاب الرئيسي لصادرات دول الشرق الاوسط.
إن هذا التحول الجغرافي يحمل في طياته تداعيات اقتصادية واستراتيجية في غاية الأهمية لعل من أبرزها:
أولاً: تراجع اعتماد الولايات المتحدة على وارداتها النفطية الشرق الاوسطية.
كان لتضافر ثلاثة عوامل رئيسية دور محوري في تقليل اعتماد الولايات المتحدة على النفط وغاز الشرق الاوسط وهذه العوامل هي:
1 - انخفاض الطلب المحلي والاستهلاك:
أدت زيادة الكفاءة في المركبات والتي وصلت في السيارات الخاصة إلى أكثر من 27 ميلاً للغالون الواحد إلى انخفاض الطلب المحلي لاسيما وأن قطاع المواصلات يستهلك أكثر من 70 % من المشتقات النفطية المستوردة (الغازولين والديزل). وتفيد البيانات الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة (EIA) الذراع الاحصائي لوزارة الطاقة الاميركية الى انخفاض الطلب على النفط عبر السنوات الخمس المنصرمة ليصل إلى 19 مليون برميل / يومياً العام 2011 مقارنة
ـ 21 مليون برميل / يومياً العام 2007. وتشير إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن الطلب المحلي على النفط قد وصل ذروته، وبالتالي فإن الطلب سيأخذ بالتراجع بمقدار 1 % سنوياً حتى العام 2035.
2 - الزيادة في الانتاج المحلي:
لقد تمكنت الولايات المتحدة من خلال توظيف تقنية حديثة تعرف بـ عملية التكسير الهيدرولكي Hydraulic Fracturing Process من إنتاج ما يعرف بـ "السجيل النفطي" Oil Shale، والتي تفيد الدراسات أن الولايات المتحدة مقبلة على زيادة إنتاجها منه، وبمعدل سنوي يقدر بحوالي 200 ألف برميل يومياً حتى العام 2020. كما أن الولايات المتحدة تشهد تطوراً لافتاً في إنتاج ما يعرف بـ الغاز الحجري. وقد عملت هذه التطورات التقنية إلى تراجع درجة اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد Oil Import Dependence إلى ما دون 50 %، وهو المستوى الأدنى له منذ ما يزيد على العقد من الزمن.
3 - زيادة إنتاج الطاقة في نصف الكرة الغربي:
إن الزيادة في إنتاج الطاقة التي خبرتها الولايات المتحدة مؤخراً، رافقتها زيادة في إنتاج النفط في الدول المجاورة لها وبالدرجة الأساس كندا والبرازيل، إذ تشهد الأولى زيادة في إنتاجها من الرمال النفطية Sand Oil (في مقاطعة البرتا) في حين تشهد الأخيرة زيادة كبيرة في انتاجها في المياه العميقة (المغمورة)، حيث تمكنت التقنيات الحديثة من التنقيب عند أعماق تصل إلى 5000 متر. إن صادرات الدولتين المذكورتين مرشحة للارتفاع لتصل إلى 5 ملايين برميل يومياً خلال السنوات القليلة المقبلة أو ما يمثل أكثر من ضعفي وارداتها (واردات الولايات المتحدة) من دول الشرق الاوسط (السعودية والكويت والعراق).
ان العوامل الثلاثة المذكورة ستفضي إلى تراجع ملموس في وارداتها من الشرق الاوسط، والتي كانت تاريخياً المبرر الرئيسي لتواجدها العسكري والاستراتيجي في المنطقة.
ثانياً: الارتفاع في وتيرة إنتاج النفوط غير التقليدية Unconventional Oil وآثارها على الاستثمارات في دول الشرق الأوسط
إن التطور الذي شهدته موارد الطاقة غير التقليدية وعلى رأسها الرمل النفطي والسجيل النفطي، بالإضافة إلى ما شهدته الولايات المتحدة من زيادة في إنتاجها من الموارد الهيدروكربونية، أدى إلى تقليل أعتمادها على الواردات، تعد من أبرز الأحداث التي اطرت السنوات القليلة الماضية. وتشير بعض الدراسات إلى أن الولايات مقبلة على زيادة كبيرة في انتاجها من الموارد الطبيعية لاسيما بعد التطورات التقنية الكبيرة التي تشهدها صناعة الطاقة، وتفيد بعض الدراسات الاستشرافية أن إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز سيصل إلى 32.6 مليون برميل مكافئ نفط بحلول العام 2030 مقارنة بمستواه الحالي البالغ 18.5 مليون برميل مكافئ نفط. إن هذه الزيادة في إنتاج الموارد الطبيعية في الولايات المتحدة سيكون لها تأثيرات بالغة للدول المنتجة في الشرق الأوسط، وعلى النحو التالي:
أ- في ظل عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده العديد من الدول الشرق أوسطية بما في ذلك المستقبل المجهول لنظام بشار الاسد في سورية، والذي ينزلق تدريجياً إلى أتون حرب أهلية وما يترتب على ذلك من تداعيات جيوسياسية على قدر كبير من الأهمية. إن هذه المعطيات دفعت بالعديد من المستثمرين في الصناعات اللاحقة (Down Stream) وخاصة في صناعة التكرير، دفعت بهم للاستثمار في أميركا الشمالية كملاذ آمن.
ب- ان انخفاض اعتماد الولايات المتحدة على الواردات الأجنبية لمقابلة الطلب المحلي لاسيما وارداتها من الدول الخليجية والعراق قد يعمل على "لجم" الحوافز الاستثمارية للشركات الأميركية من الولوج في مشاريع استثمارية في المنطقة. وفي حين أن الشركات الأميركية من قبيل أكسون موبيل وشيفرون هي شركات ربحية مستقلة ذات أجندات تختلف تماماً عن أجندات الإدارة الأميركية، بيد أن المصالح الاستراتيجية للحكومة الأميركية "تناغمت" إلى حد كبير مع المصالح التجارية لشركاتها النفطية الخاصة في العقود الخمسة الماضية ومع تراجع اعتماد الولايات المتحدة على نفط وغاز الشرق الأوسط، فإن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه للشركات الآسيوية للاستثمار وعلى رأسها الشركات الصينية. وقد وصل التعاون النفطي بين الصين ودول المنطقة إلى درجة كبيرة من التقدم، إن التحول في وجهة صادرات الدول الخليجية (بما فيها الصادرات العراقية) إلى الدول الناشئة في آسيا (الصين والهند) بالاضافة إلى الزبائن التقليديين (اليابان وكوريا الجنوبية) يشير إلى أن مراكز القوى الطاقوية التي كانت تهيمن عليها المناطق الواقعة في نصف الكرة الغربي قد انتقلت إلى نصف الكرة الشرقي وما يترتب على ذلك من نتائج على قدر كبير من الأهمية، لاسيما وأن هناك من يرى ملامح لولادة شرق أوسط جديد في أميركا الشمالية نتيجة لعوامل جيولوجية وتقنية ما جعلها تتمكن من إنتاج الصخر النفطي والزيتي والسجيل النفطي، وهي جميعاً مصادر طاقة غير تقليدية. والتي ستعمل على تقليل اعتماد الولايات المتحدة على نفوط الشرق الأوسط.
الملاحظات الختامية: إن اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الاوسط سيبقى قائماً وإن اتخذ أشكالاً مختلفة، وسيبقى تحقيق تدفق آمن للامدادات ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية بغض النظر عن الإدارات الحاكمة، سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية.

*باحث عراقي متخصص في شؤون الطاقة