"التربية والترهيب"!

عرفتُ فيما بعد أنَّني وُلِدتُ شقياً..؛ ومثلكم جميعاً، كانَ لي أبٌ عصبيُّ المزاجِ، يذهَبُ إلى عمَلَيْن، وينامُ في قيلولَةٍ حارَّةٍ، ثم يصحو بمزاج معكَّرٍ، موجِّهاً لي ملاحظاتٍ، فهِمْتُ أيضاً فيما بعد، لما أردْتُ تفسيرَ أدَبي الشديد، أنَّها لم تكُنْ جوهريَّة، وكلُّها تمنَعُني من القيام بأي حركات بدنيَّةٍ أو ذهنيَّةٍ، بإشارات صارمة من أصابعه تدلُّ على العيب والحرام والممنوع بدون سبب!اضافة اعلان
لمَّا كبرتُ قليلاً، وصارَ لي صوتٌ واضحٌ، صرتُ أحاجِجُ أبي بصوتٍ خفيضٍ بيني وبين نفسي..؛ فابن عمِّي الصغير يفعلُ ما أودُّ فعله، وابن الجيران يقولُ ما لا أجرؤ على قوله، لكنَّ ما جعلني متوتراً ناقص الإحساس بـ "الرجولة المبكِّرَةِ"، أنَّ ابنة الصفِّ بمقدورها أنْ تتبجَّحَ بفعلٍ صبيانيٍّ ينهرني أبي عنه لأنه سيجلبُ له الشتيمة، والعارَ فيما بعد!
ليتَ الأمرَ اقتصرَ على أبي، فقد انشغَلَ عن تربيَتي لما صارَ يعمل على مدار ثلاث ورديَّات، فأوكَلَ المهمَّة كاملةً إلى أمِّي المتديِّنَةِ على فطرَةٍ نقيَّةٍ، تدفعها لمراقبة كلِّ الأفعال التي تصدر عنِّي وإلحاقها على الفور بعبارات "الأمر" ثمَّ "النهي"، وإنْ لم أعُدْ إلى "جادة صوابها"، بتأثير مباشَرٍ من حديث قلبِها أو لسانِها أو يدِها، تلوِّحُ بتفويض معلمي الدِّين واللغة العربيَّة والانجليزيَّة بإعادة ترْبيَتي من أول السطر..؛ وحدثَ هذا على نحو قاسٍ حتى الثانوية العامة حين كانت أعلى العلامات في شهادتي هي السلوك والانضباط داخل الصفِّ وفي ساحَةِ الألعاب الحُرَّة!
دخلتُ مثلكم إلى جامعة بعيدة عن رقابة والديَّ الحازمين، وشقيقتي الكبرى الصارمة، ومساعد مدير المدرسَةِ زوجُ الجارَةِ الشرِّيرَة..؛ هناك ظنَنْتُ أنَّه كان يمكنني أنْ أمسكَ بيد فتاة تحت شجرة زيتون في وضعٍ مُريحٍ، وأجاهِرَ بأفكار تشرَّبتُها في السرِّ من كتبٍ حمراء ممنوعة من التداول. أسرفتُ في الاعتقادِ أنني "حرٌّ وحرُّ"، ويمكنني فعل ما لم أفعله، وقول ما لم أجرؤ على قوله، قبلَ أنْ تقدِّمَني الجامعة إلى لجنة تحقيقٍ، والحزب إلى لجنة تأديبٍ، والدولة إلى مركز أمنيٍّ، فأعلنتُ "التوبة" ثمَّ تزوَّجتُ من امرأةٍ قصدتُ أنْ تكونَ "مسكينة" و"كثيرة البركة"، وتأكل القطة عشاءَها المتقشِّف، وكانت كذلك في شهر "العسل الأسود"، حتى تمكّنَتْ بعد إنجاب ولدَيْن وبنتَيْن وأحالت كلَّ أوراقي إلى "المُفْتي"!
المديرُ في العمل لم يرق له طموحي فجهَرَ أمام زملائي أنه "سيُربيِّني". كان قد تبقى لديَّ بعض المكابرة والقدرة على التحدِّي، فاخترتُ "المنازلة الشريفة" التي خرجتُ منها، بالطبع، كثير الأدب متكئا على جدران العمل الواهية..؛ كانت هزيمَةً مدوِّيَةً، حفَّزَت جميع الزملاء على استدراجي لمعارك جانبيَّةٍ لاختبار قواهم وتمرُّدهم على ماضيهم المؤدَّب!
حاولتُ أنْ أكونَ "قليل الأدب" و"عديم الترباية" وشخص "وهِرْ"، وفقَ وصف جدِّي الذي كان يأمل أنْ أكونَ صلباً يضربُني في الحائط فأعود إليه واقفاً..، لكن على ما يبدو فقد حدث تواطؤ عام على تدجيني..؛ فرقيبُ السير لمَحَ أدبي الشديد فوجَّهَ لي مخالفة أخرى لم أرتكِبَها حتى لا أرتكِبَها، وموظفُ الخدمة المدنيَّة قام من وراء مكتبه ليلقنَني كتابة اسمي من جديد، وقبلَ صدور حكم قضائي بحقِّي على جُنْحَة كنتُ ضحيَّتَها قرأ لي القاضي محاضرَةً في الأخلاق والموعظة أرهبَتْني وأعادَتْني إلى الحياة من جديد طفلاً لأبٍ عصبيِّ المزاج يتوعَّدُني إنْ فعلتُ أو قلتُ يقلقُ قيلولته!
"أرنبٌ" إذَنْ أنا الآن، و"حَمَلٌ وديعٌ"، و"ابن أمِّي" و"زوجُ الست"، و"المغلوب على أمري" وعندما أهمُّ بشراء بيتٍ جديدٍ ويسأل الجيران عنِّي، يقولُ لهم من يعرفوني جيِّدا إنَّني "آدمي" و"بحالي" وأقدِّرُ وزني تماماً..؛ أنا يا أنتم:"مُربَّى بالجُبْن"!!

[email protected]