التشفي المقدس

قبل أن يخط حرفاً في قراءته المعاصرة للقرآن الكريم اعتكف المهندس السوري محمد شحرور عشرين عاماً على دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب التفسير والتراث والسير، وقدم بعد ذلك الاعتكاف قراءةً جديدةً للقرآن الكريم.اضافة اعلان
وقد وصفَ قراءته الجديدة بأنها معاصرة بمعنى أنها قراءة لا تستند إلى الفهم السابق للنص القرآني بل قراءة "حية" بعين وأدوات الحاضر وسندًا للعلم التراكمي الحالي للإنسان. وسنده في هذا النهج أن القران الكريم كتاب منزل من حي جل وعلا إلى أحياء، وبالتالي فإن فهمه عملية متحركة يحكمها العصر، ولهذا وصف قراءته بأنها قراءة معاصرة، وهذا معنى مشهور عن القرآن ويُختصر بعبارة "أنه صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ".
والأساس الثاني في قراءته يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، وهنا تكون اللغة أساس التفسير ولغة القرآن عند شحرور ليس فيها ترادف فإن وردت في الآية كلمة أب فإنها لا ترادف كلمة والد، والله تعالى دقيق الصنع في خلقه لا يجوز أن يكون في كتابه حشو أو ترادف فكل كلمة في القرآن مقصودة لذاتها كما أن فهم القرآن ليس فهما لمعاني كلمات الآية فإن النص يفهم في صياغته الكلية، وليس بمعاني مفرداته منفردة.
عندما يرد ذكر الرسول الكريم كان يقول رحمه الله سيدي رسول الله، وهو يقر ويؤمن بالسنة الثابتة عن الرسول الكريم، ولكنه لا يعتقد أن السنة "وحي ثان" كما قال الشافعي، ويُعرض عن الأحاديث الضعيفة أو التي دُست على الرسول الكريم، وهو في هذا لا يختلفُ عن كثيرٍ من الفقهاء الثقات في رد الأحاديث الضعيفة أو التي تعارض نصا صريحا في القرآن. ولهذا فإن القول بأنه لا يؤخذ بالسنة قول مردود، فكتبهُ ومنطقهُ يتزين بالاستناد إلى الأحاديثِ النبويةِ الصحيحةِ.
طرح شحرور أفكاره "المعاصرة" في خمسةَ عشر كتابًا من أهمها في تصوري كتابُ فقهِ المرأةِ، الذي قدم فيه قواعد جديدة للميراث أساسها المساواة بين الذكر والأنثى من منظور فهم آيات القرآن، وليس تشبهًا بالغرب أو الشرق، كما قدم مفاهيم جديدة للقوامة باعتبارها مفهوما متعلقا بالكفاءات وليس بالجنس، ولهذا تتبادل المرأة والرجل القوامة حسب طبيعة الموقف فمديرة المصنع قوامة على عمالها والأزواج تتبدل قوامتهم حسب طبيعة الموضوع، وبما أنفقوا على بعضهم، أيضا قال بفهم جديد لمفهوم لباس المرأة بأنه ما يخفي الجيوب فقط، وحصر التعدد في ظروف محددة ضيقةٍ جداً، وأخيراً قال بفهم أن الوصيةَ أولويةٌ على تطبيق قواعد الميراث بمعنى أن للمورث أن يحدد كيف يوزع ميراثه، فإن لم يفعل فإنه يطبق قواعد الميراث كما وردت في القرآن الكريم.
أعتقد أن أفكاره الجديدة بخصوص المرأة وشؤونها التي تختلفُ عما أجمعَ عليه أغلب الفقهاء والمفسرين، أحدثت صدمةً عند البعض وأثارت مع الاحترام غضبةً مُضريةً ذكوريةً، وألبت عليه كثيراً من الأعداء والناقدين والمشككين والمكفرين، فأخرجه البعض من الملة وربطه البعض الآخر بمشاريع مغرضة وأهداف خبيثة.
وهذا ليس بجديد ولا مفاجئ فإن التصدي لما هو مستقر وثابت مغامرة محفوفةٌ دوماً بالمخاطر، فما لقيه شحرور ليس جديداً على أي مصلح أو مجدد، وللأسف الشديد فإن تاريخنا العربي والإسلامي شاهد على عدم قبول الاختلاف والرأي الآخر وخاصة الرأي المجد والمحدث.
فمنذ محمد عبده وصحبه، مروراً بحركة الإخوان المسلمين وليس انتهاءً بحركات الإسلام الليبرالي أو القومي الحديثة، لم يسلم هؤلاء من التشكيك والتكفير، وهكذا تدور الدوائر.
فهم وتفسير شحرور للقرآن ليس مقدساً ولا قطعياً، وتطبيق منهجه في فهم النص القرآني يعني أن هذا الفهم عمليةٌ متحركةٌ مرهونةٌ بزمانها وأدواتها في نهج تفسير القرآن بالقرآن، وليس بالتاريخ ولا العادات ولا التقاليد، فإن كان الإسلام يقولُ بالعالمية فإن النص يكون قابلاً للفهم في الأردن وفي الصين وتفسيره يجب أن ينسجم مع هذه العالمية.
أفهم شعور التشفي المقدس الذي انتشر على نبأ وفاة الرجل وزفرة الارتياح للذين يتعبهم مراجعة المستقر المشهور، ولكن مشروعه يحتاج إلى أكثر من التشفي برحيله، اعتقد يحتاج إلى دراسةٍ موضوعيةٍ متأنيةٍ، فإن شحرور ومشروعه ليس مقدساً، ولكن يُذكر للرجل اجتهاده وشجاعته ومثابرته وسعة بحثه وجرأته في التصدي للتاريخ، ونقضه لكل ما هو غير عقلاني ومنطقي من التراث، والذي خلف هذا التراث وهذه الكتب ما مات، فاهم علي جنابك؟