التطرف الثقافي

شكل العقد الراهن رأس موجة الردة الثقافية والاجتماعية في العالم العربي التي سمحت لحركات سياسية ان تستثمر الدين وتوظفه في واحدة من أقسى موجات التطرف، كما شكل هذا العقد ايضا ساحة واسعة لأشكال مختلفة ومتعددة من التعبيرات الثقافية في العديد من المجتعات العربية التي كشفت عن حالات متباينة من الردة الثقافية، وهذه الحالة لم يسلم منها المجتمع الأردني وبتنا نلمس آثارها. التطرف الثقافي يعني الطريقة التي يتصور فيها الناس أنفسهم ويتصورون بها الآخرين، والطريقة التي يصدرون بها الاحكام، والطريقة التي يطورون فيها المعايير ايضا، وبالتالي ما يقود إلى ضرب قدرة المجتمع على قبول الاختلاف والتنوع والتعلم المستدام للعيش معا. حينما تتراجع هذه القدرات تبدأ الردة الاجتماعية تزحف وتتبلور حتى تنضج على شكل تحولات كيفية تبدو في طريقة تفكير الافراد والجماعات وفي تغيير الاولويات والانشغالات لتصبح حالة من التطرف الثقافي، تبرز بين فترة واخرى وتظهر على اشكال عدة منها الاقصاء ومحاولة الاستحواذ على الرأي العام او المبالغة المفرطة في وصف الظواهر وتهويلها، وتصنيف الافراد والجماعات بينما تعمل ماكنة الوصم الاجتماعي عملها، والاخطر من ذلك ان هذه الظاهرة تقود إلى اعادة تشكيل اولويات المجتمع وانشغالاته وحرفه عن اولوياته الحقيقية. المشكلة الكبيرة ان التطرف الثقافي يعد اخطر اشكال التطرف، لأنه يولد حالة خوف جماعي أي حالة اضطهاد جماعي ما يجعل فئات واسعة من المجتمع إما أن تلوذ إلى دوامة من الصمت او السير مع الموجة والاستسلام لظاهرة القطيع خوفا من العقاب الاجتماعي الذي يصدر احكامه القاسية بدون مناقشة. وبالتالي فعقدة الاضطهاد تجعل المهمة اسهل على الفئة التي تخطف الرأي العام وتحاول قيادته. ولعل هذا المدخل يوضح لنا زاوية من زوايا الإجابة عن سؤال مهم، عن صعوبة تشكل الرأي العام في الكثير من المجتمعات العربية؛ حيث لا يوجد توافق ما، ولا رفض واضح ومتبلور حول ما نريد، وحول ما لا نريد؛ ثمة رمادية هائلة تتراكم في الطرقات وتعيق الحركة، لا يوجد قدرة على تصعيد توافق عام ولا توجد قدرة لخلق حالة رفض عامة ما يعني انه يولد رأي عام معتدل وغير متماسك ويسهل اختراقه او تحويله إلى مجرد حالة انفعالية يسهل امتصاصها. فالرأي العام ظاهرة اجتماعية سياسية ذات قدرة اتصالية عالية، وكما هي مرتبطة بدرجة الوعي ومستوى الحريات فإنها ترتبط بقدرة الناس على الكلام أي اقتراح المناقشات وتصعيدها، وهنا تبدو العلة في القوى التي تحاول اختطاف الرأي العام وتعمل على اعادة تصنيعه، مصدر الخطورة الآخر ان نمو ظاهرة التطرف الثقافي بات يرتبط بظاهرة الشعبوية والبحث عن التأييد ليس على معايير الصالح العام بل على معايير اللحظة الراهنة بكل ما تحمل من استعراض ونفعية. المجتمعات التي لا تهتم بالشأن العام، لا مكانة لها لدى من يصنعون الشأن العام؛ هذه المسألة تحفر عميقا في ضعف التغير الاجتماعي والثقافي وعدم قدرة الافراد والمجتمعات على التوافق حول فكرة الصالح العام. انها مسألة اكبر من السياسة، وتفتح الباب واسعا للمزيد من التطرف الثقافي والمزيد من الاضطهاد الجماعي، وإعادة قولبة اولويات المجتمع وانشغالاته وبالتالي خروجه من التاريخ.اضافة اعلان