التطور الطبيعي للدولة

الفضيحة السياسية بالمفهوم التاريخي ليست في انغلاق الحوار الوطني حول الإصلاح الذي يُجسد اليوم أكثر من أي لحظة تاريخية أخرى حالة من الجمود، رغم كل الضجيج حول الإصلاح. وهي الحالة التي تبدو في عملية تكرار وإعادة إنتاج قاتلة للقضايا ذاتها، والشجون والمخاوف المتبادلة نفسها منذ أكثر من عقدين بين فريقين غير واضحي المعالم والملامح، ولا يمكن تعريفهما بشكل محدد.اضافة اعلان
والفضيحة الحقيقية ليست في انكشاف مدى تهافت طيف من النخب الأردنية على أبواب السفارات الغربية ومساومتها على مستقبل الوطن ولونه، كما بدا الأمر في برقيات السفير الأميركي التي كشفها موقع ويكيليكس. كما أن الفضيحة ليست في استرخاء المجتمع أمام النخب التقليدية المغلقة، الانتهازية منها أو الفاسدة، تلك النخب التي استفادت من استمرار الأمر الواقع، حيث طالما كفل لها هذا الواقع الصعود السريع على سلالم الدولة. الفضيحة الحقيقية التي حان الوقت للمجتمع الأردني أن يصدم بها ويعيها ويعترف بها ويواجه النخب بها، هي أننا عجزنا منذ تسعين عاما هي عمر الدولة الأردنية عن تكوين كتلة ديمقراطية وطنية بالمفهوم التاريخي والسياسي والعلمي، تقوم على حماية فكرة الدولة وتجسدها بالخطاب والممارسة القائمة على ثالوث الهوية والمواطنة والديمقراطية.
 المناقشة المحلية حول مستقبل الدولة الأردنية، والتي تزداد يوما بعد يوم جرأة وانحرافا، ما تزال خالية من المضمون السياسي والاجتماعي المنتمي لفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية. والقوى السياسية التي تتقاسم الملعب في الأغلب تتصرف من منطلقات عجيبة وغريبة، ومحزنة أحيانا أخرى، وإن برزت على الواجهة تحت عناوين براقة تدغدغ العواطف وفق خرائط التقسيم السياسي الأردني التقليدي بين الأصول الأردنية والفلسطينية، وهو التقسيم الذي يحتمل عمليا طبقة محدودة من الطرفين، بينما الطيف الواسع من المجتمع السياسي يمارس لعبة أخطر في المماطلة والرمادية، وكأنه يؤكد بطريقة أو أخرى أن مستقبل البلاد بالفعل ينتظر حسم هذه المسألة وبواحدة من الطريقتين، بينما يغيب ويتراجع دعاة الإصلاح المنتمون للتطور الطبيعي للدولة القائم على فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية.
هذا الواقع الذي يفسر أحوال الإصلاحيين الذين يتصدرون المشهد الأردني في هذه اللحظة، ومحنة الإصلاح الحقيقي، ويفسر السؤال المقلق: لماذا ما يزال خطاب الإصلاح يفتقد للعمق المجتمعي؛ بمعنى القدرة على خلق الالتفاف المجتمعي حول رؤية إصلاحية واضحة؟
الكتلة التاريخية الديمقراطية المنتظرة المنتمية للدولة الوطنية، وحدها التي تملك قدرة وإرادة الهدم والبناء معاً، وتستطيع تحمل آلام التغيير واستيعابها، وأن تتمكن من إعادة تأهيل النقد الذاتي على قواعد العقلانية، والوصول إلى الناس والدخول في اشتباك مع الحفائظ الداخلية والصور الذهنية والثقافة الشعبية والأطر المؤسسية والفساد وصياغة العبور الاقتصادي، واعادة صياغة مزاج المجتمع وتوجيهه نحو الانتاج وحماية القيم الديمقراطية الأصيلة.
الحاجة إلى اختراق نخبوي حقيقي ينجز مهمة الكتلة التاريخية المنتمية لفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية لم تعد ترفا سياسيا واجتماعيا، بل ضروة للبقاء وللخروج من الترقيع السياسي والاجتماعي ومن حالة فقدان الوزن المقلقة.