التعريف الانتقائي للإرهاب

نعوم تشومسكي* – (ذا بالستاين كرونيكل) 12/1/2015

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

استجاب العالم بالتعبير عن الرعب في أعقاب الهجمات القاتلة التي شُنت أخيراً على الصحيفة الفرنسية الساخرة، تشارلي إيبدو. وفي صحيفة "نيويورك تايمز"، وصف مراسل الصحيفة المخضرم في أوروبا، ستيفن إيرلانغر، وببلاغة كبيرة مشهد ما بعد الحدث الذي يسميه الكثيرون "11/9 الفرنسي"، فقال إنه "يوم من صفارات الإنذار، والطائرات العمودية المحلقة في السماء، ونشرات الأخبار المحمومة؛ وشرائط التطويق التي تستخدمها الشرطة، والحشود القلقة؛ يوم من قلق الصغار الذين يُنقلون من المدارس من أجل سلامتهم. كان ذلك يوماً، مثل اليومين اللذين سبقاه، من الدم والرعب في باريس وما حولها". وقد ترافق الغضب الهائل في مختلف أنحاء العالم مع بعض التأملات في الجذور الأعمق التي كانت وراء الهجوم. وقال عنوان رئيسي في صحيفة نيويورك تايمز: "الكثيرون يرون صداماً للحضارات".اضافة اعلان
لا شك في أن رد الفعل المتميز بالرعب والاشمئزاز من الجريمة مبرر، وكذلك هو البحث عن الجذور الكامنة وراء هذا العمل، طالما أبقينا على بعض المبادئ ماثلة بقوة في أذهاننا. يجب أن يكون رد الفعل مستقلاً تماماً عن فكرتنا المتعلقة بهذه الصحيفة وما تنتجه. ويجب أن لا يكون القصد من هتافات مثل "أنا تشارلي" وأشباهها أن تشير، أو حتى أن تلمح، إلى أي صلة خاصة للصحيفة، في سياق الدفاع عن حرية التعبير على الأقل. بدلاً من ذلك، يجب أن تعبر هذه الهتافات عن فكرة الدفاع عن الحق في حرية التعبير بعموميتها، وبغض النظر عما يعتقده المرء إزاء المحتوى، حتى لو كان ذلك المحتوى يُعتبر كارهاً ومنحرفاً.
يجب أن تعبر الهتافات عن إدانة أعمال العنف والإرهاب بمطلقها. وكان زعيم حزب العمل الإسرائيلي والمنافس الرئيسي في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، إسحق هيرتزوغ، محقاً تماماً عندما قال: "الإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك مفهومان لذلك". وهو محق أيضاً في قوله: "كل الدول التي تسعى إلى السلام والحرية (تواجه) تحدياً هائلاً" من الإرهاب القاتل –إذا وضعنا جانباً تأويله الانتقائي الخاص، كما هو متوقع، لذلك التحدي.
يصف إيرلانغر مشهد الرعب الباريسي باستفاضة. وهو يقتبس عن صحفي تمكن من البقاء على قيد الحياة قوله: "كل شيء تحطم. لم تكن هناك أي طريق للخروج. كان الدخان في كل مكان. كان ذلك رهيباً. كان الناس يصرخون. كان أشبه بكابوس". وكتب صحفي آخر من الناجين عن "انفجار ضخم، وأصبح كل شيء مظلماً تماماً". كان ذلك المشهد، كما كتب إيرلانغر "واحداً يصبح مألوفاً باطراد من الزجاج المحطم، والجدران المهدومة، والأخشاب المشوهة، والطلاء المحروق والدمار العاطفي". وذكرت التقارير الصحفية أن 10 أشخاص على الأقل ماتوا مباشرة نتيجة الانفجار، وأن 20 آخرين مفقودون "ربما يكونون قد دُفنوا تحت الأنقاض".
هذه الاقتباسات الأخيرة، كما يذكرنا المثابر ديفيد بيترسون، ليست عن كانون الثاني (يناير) 2015. إنها مقتطفات من تقرير إخباري كان إيرلانغر قد أعده في 24 نيسان (أبريل) من العام 1999، والذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" فقط على الصفحة 6، بحيث لم يصل أبداً إلى أهمية هجوم تشارلي إيبدو كما غطته الصحيفة. كان إيرلانغر يكتب عن "هجوم قوات حلف الناتو (وهو ما يعني: الولايات المتحدة) بالصواريخ على مقر التلفزيون الحكومي الصربي"، وهو الهجوم الذي "انتزع مبنى راديو وتلفزيون صربيا من الأرض ونثره في الهواء".
بطبيعة الحال، كان هناك تبرير رسمي. "وقد دافع مسؤولو الناتو والمسؤولون الأميركيون عن الهجوم، باعتباره جهداً يرمي إلى تقويض نظام الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش"، كما كتب إيرلانغر. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية كينيث بيكون، في مؤتمر صحفي في واشنطن إن "التلفزيون الصربي يشكل إلى حد ما جزءاً من آلة قتل ميلوسيفيتش، شأنه في ذلك شأن جيشه"، ولذلك أصبح مقر التلفزيون هدفاً مشروعاً للهجوم.
في الجهة الأخرى، قالت الحكومة اليوغسلافية إن "كل الأمة تقف إلى جانب رئيسنا، سلوبودان ميلوسيفيتش"، كما كتب إيرلانغر الذي أضاف: "أما كيف تعرف الحكومة هذا بمثل هذه الدقة، فهو ليس واضحاً بعد".
الآن، لا نجد مثل هذه التعليقات الساخرة عندما نقرأ أن فرنسا تنعى القتلى وأن العالم غاضب من العمل الفظيع. كما أنه ليس ثمة حاجة إلى إجراء تحقيق في الجذور الأعمق وراء الهجوم، وليست هناك أسئلة كبيرة عمن هو الطرف الذي يقف مع الحضارة، ومن الذي يقف مع البربرية.
كان إسحق هيرتزوغ مخطئاً إذن عندما قال إن "الإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك مفهومان لذلك". هناك بكل تأكيد مفهومان للإرهاب: إن الإرهاب لا يعود إرهاباً عندما يقوم بتنفيذ هجمات إرهابية أكثر شدة بكثير من أولئك الذين يصبحون "الصالحين" بفضل قوتهم. وبالمثل، ليس هناك أي اعتداء على حرية التعبير عندما يقوم "الصالحون" بتدمير قناة تلفزيونية مؤيدة لحكومة يهاجمونها.
بنفس الطريقة، يمكننا أن نفهم بيسر ماهية ذلك التعليق الذي ظهر في صحيفة "نيويورك تايمز" لنصير الحقوق المدنية، فلويد أبرامز، المعروف بدفاعه القوي عن حرية التعبير، والذي قال إن الهجوم على تشارلي إيبدو هو "الهجوم الأكثر تهديداً على الصحافة فيما تحتفظ به الذاكرة الحية". إنه محق تماماً فيما يخص "الذاكرة الحية"، التي تقوم بعناية بإحالة الاعتداءات على الصحافة وأعمال الإرهاب إلى فئاتها المناسبة: أعمالهم (هم)، الفظيعة الرهيبة؛ وأعمالنا (نحن)، الصالحة التي يمكن حذفها بسهولة من الذاكرة الحية.
ربما يجدر بنا تذكر أن هذا الهجوم (على التلفزيون الصربي) إنما يشكل واحداً فقط من هجمات "الصالحين" العديدة على حرية التعبير. وسأذكر مثالاً واحداً منها، والذي تم مسحه بسهولة من "الذاكرة الحية": الهجوم الذي شنته القوات الأميركية على الفلوجة في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2004، في واحدة من أسوأ الجرائم التي ارتكبت في غزو العراق؛ الهجوم الذي بدأ باحتلال مستشفى الفلوجة العام. إن الاحتلال العسكري لمستشفى، يشكل بطبيعة الحال جريمة خطيرة في حد ذاته، حتى في معزل عن الطريقة التي نُفذ بها ذلك العمل، وهو ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" بطريقة متملقة في مادة على صفحة أمامية، مصحوبة بصورة تصور الجريمة. وقالت تلك القصة الإخبارية أن "الجنود المسلحين قاموا بدفع المرضى وموظفي المستشفى إلى خارج الغرف، وأمروهم بالاستلقاء على الأرض وقام الجنود بربط أيديهم خلف ظهورهم". وقد تمت تغطية تلك الجرائم إعلامياً باعتبارها عملاً جديراً بالتقدير إلى حد كبير، ومبررة أيضاً، فقالت المادة الإخبارية: "وقد أدى الهجوم أيضاً إلى إيقاف ما وصفه المسؤولون بأنه سلاح دعائي للمتشددين: مستشفى الفلوجة العام، بسيل تقاريره عن الإصابات في صفوف المدنيين". 
كما هو واضح، لا يمكن السماح لمثل هذه الوكالة الدعائية بأن تتقيأ كلماتها المبتذلة، حسب عرف منفذي الهجوم على المستشفى.

*عالِم لغوي أميركي، وفيلسوف وعالِم معرفي، منطقي، ومعلق سياسي أميركي نشط. يوصف أحياناً بأنه "والد اللغويات الحديثة". أمضى معظم حياته المهنية في معهد مساشوستس للتكنولوجيا، وهو حالياً أستاذ فخري في المعهد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: We Are All – Fill in the Blank

[email protected]

alaeddin1963@