التعليم: إعدام الذات وتعظيم الموضوع..!

لا تقيس نتائجنا المخيبة للكفاءة الجامعية حالة الجامعات فقط، وإنما تقيس كفاءة المجتمع كله –بشهادة العينة التي هي واجهته. وليس الطلبة هم الملومون، بقدر ما هي المنظومة التعليمية، وما وراءها من النمط العقلي السائد المنكفئ، الذي يدافع عن نفسه بالتسبب في اضمحلال سواه، مثل الخلايا المريضة.اضافة اعلان
يتجلى ذلك جيداً في نوعية الامتحانات. في السابق، كان بعضنا في كلية الآداب، كمثال، يفرحون بما نسميه "الأسئلة المقالية". وفيها، كانوا يضعون لنا سؤالاً واحداً أو اثنين، أو ثلاثة نختار منهما اثنين، ونكتب عنهما مقالاً. كنا نجيب، مثلاً، عن سؤال: "ناقش مفهوم الحداثة". أو نعلق على اقتباس من رواية، من قبيل: "في قلب الظلمة، قال كورتز: "الهول، الهول!"، علّق". وفي الفلسفة يسألونك: "يتحدثون عن علاقة بين فلسفة الأخلاق وعلم النفس، كيف ترى ذلك؟"... وهكذا. وفي إجابة هكذا أسئلة، لا يُفترض في المُجيب أن يعيد إجابة محفوظة محددة سلفاً، وإنما يعمل خياله وقدرته على التحليل والربط، ويجرب مهارته في الجدل والابتكار وتوسيع الفكرة ودعمها بالمنطق. كان هذا النوع من الأسئلة محبباً للطلبة الذين ربما لم يستظهروا المقررات، وإنما يستعينون في أي موقف بمهاراتهم المشحوذة ومخزونهم المعرفي لإنتاج إجابة مبتكرة وخلاقة.
في المقابل، هناك الذين فضلوا ما يُدعى "الأسئلة الموضوعية" التي تتخذ غالباً شكل: أجب بنعم أو لا؛ ضع دائرة حول الإجابة الصحيحة؛ أو املأ الفراغ بالكلمة/ العبارة المناسبة. وفي هذا النوع من الأسئلة، تكون الإجابة معطاة سلفاً ويجب أن تكون محفوظة. وبالإضافة إلى ضرورة الاستظهار للإجابة عن السؤال الموضوعي، قد ينفع معه "التحزير" والاقتراع بالعملة "كتابة أم نقش". ولا مانع في السؤال الموضوعي في الرياضيات مثلاً، عندما لا يمكن –مبدئياً- اختيار رقم صحيح من أربعة (بخيار التحزير) إلا إذا حل الطالب السؤال باستخدام القوانين والمعادلات. لكنه لا معنى لسؤال موضوعي من نوع: "بروميثيوس، الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، هو: أ) انتهازي؛ ب) ثوري؛ ج) انتهازي وثوري؛ د) لا شيء مما ذُكر". إن إجابة هذا السؤال هي شأن يجب أن يخص قراءة الطالب للشخصية من زاويته. لكن أستاذ المادة ربما يكون قد قرر في محاضرة أن بروميثوس انتهازي مثلاً. والويل لمن يجيب بالعكس. وقد يسألك أستاذ في تاريخ الأدب الأميركي: "ولدت إميلي ديكنسون في العام: (ويزودك بأربعة أرقام تختار منها). ما الذي يعنيه بحق الله حفظ تاريخ ميلاد ديكنسون؟!
لن أنسى "أستاذاً" درس لنا مادة "فن الكتابة والتعبير"، وسألنا في الامتحان: "ما هو أفضل الأوقات للكتابة؟" ولأنه قرر في كتابه الذي ألَّفه وفرضه علينا أن أفضل وقت هو بعد صلاة الفجر، فإن الإجابة بغير ذلك تماثل الجريمة –حسب الأستاذ.
سأقول أن عكس السؤال "الموضوعي" الموصوف هو السؤال "الذاتي" الذي سميناه "المقالي". في النوع الثاني، ستكون إجابتك هي إفصاحك عن ذاتك ورؤيتك، وتمرينك عضلات دماغك على التدقيق في الأوجه، بينما تزيد من شحذ أدواتك النقدية وتحريض انتباهك الشخصي. إنك لا تكون معنياً بإعادة معلومات الأستاذ المحفوظة إليه، وإنما بتزويده/ وتزويد نفسك، بمعرفة قد تكون جديدة تماماً عن الموضوع. وفي المقابل، سيكون السؤال الموضوعي أشبه بقولهم لك: "لا تفكر، فقد فكرنا عنك. اختر من بين إجاباتنا ولا تهمنا إجاباتك، أو "ذاتك" أو "رأيك". لا نريدك أن تتمرن على الابتكار والاستقراء والاستنباط، لأن لدينا الحقيقة نخدمك بها جاهزة، ونزودك بها فتردها علينا كاملة غير منقوصة، و"يعطيك العافية"!
بطبيعة الحال، سيكون تصحيح الأسئلة الموضوعية أسهل على "الأستاذ الكسول"، وقد يقوم به الحاسوب الأعجم لأنه ليس ذاتاً ولا هو بصدد التعامل مع ذوات لها خصوصيات. وبذلك يتجنب "المعلم" مشقة قراءة أوراق كثيرة وتقديرها، مع انفتاح لائق على أفكار مختلفة لها منطقها. وبذلك أيضاً، سيتجنب العقل السكوني السائد مواجهة أناس لا يحبون التلقين، وإنما يمتلكون منهجية للقراءة والتأويل، ويستطيعون الانتقاد واقتراح الأفكار. لكنه طالما ظل "الموضوع" مفضلاً على "الذات" في السياسات العامة بغرض إدامة منظومات جامدة مخصوصة؛ طالما ظلت مهمتنا هي الاختيار بلا نقاش بين نعم ولا، أو بين بدائل معطاة، فلنبك على التعليم، ولنقرأ على ذواتنا المهدورة السلام!