التعليم والاتجار بالبشر

التعليم، ابتداء، هو وظيفة الدولة. ولا يجوز تفويض دور الدولة وإحدى وظائفها الأساسية إلى القطاع الخاص، ولا يجوز أن يكون للقطاع الخاص دور في التعليم الأساسي؛ بل يمكن أن يؤدي أدوارا خدماتية أو إضافية في التعليم، لكن أن يتولى القطاع الخاص العملية التعليمية الشاملة، فذلك يعني سلسلة من الانتهاكات والكوارث والتمييز بين المواطنين، والإضرار بالهوية الوطنية الجامعة ورسالة الدولة والمجتمع. الحكومة عندما تتخلى عن تعليم المواطنين ثم تلزمهم بالتعليم، فإن هذا يمثل، على نحو ما، "اتجارا بالبشر"، كمن تبيع المواطنين للشركات والقطاع الخاص. وعندما تسمح بالتمييز في التعليم، فإنها بالامتيازات التي منحتها لفئة من المواطنين، تسمح لهم أن يستغلوا مواطنين آخرين؛ فحرمان المواطنين من فرص متساوية في التعليم يعني منح امتيازات غير عادلة، تتيح لأصحابها استغلال المواطنين والاستحواذ على فرص في العمل والحياة على نحو غير عادل.. وهذا اتجار بالبشر.اضافة اعلان
المدارس الخاصة في منشئها وفلسفتها وفكرتها، وفي تطبيقاتها وممارساتها، ثم في المشهد التعليمي في الأردن، ليست سوى حالة كارثية من الاتجار بالبشر! فاليوم، تصوغ شركات ومصالح تجارية الاتجاهات التعليمية وعمليات التنشئة والثقافة ووعي الذات. وفي ظل هذه الحالة نتوقع، بل ونشهد كارثة تلحق بالأجيال والمجتمعات والأسواق؛ مدى قدرة المواطنين على استخدام اللغة العربية في الكتابة والتعبير والعمل والإبداع، والتفاوت الهائل في الخدمات والفرص والمزايا التعليمية التي يتلقاها المواطنون، وغياب المهارات الإبداعية الأساسية في الكتابة والموسيقى والفنون، وتغييب العمل التطوعي والخدمة العامة، وإدخال التعليم الأجنبي والشهادات المدرسية الأجنبية إلى المجتمع! والتطرف الديني والانفصال الاجتماعي وضياع الهوية والانتماء، والزيف الشامل والكاسح في التعليم والنشاط التعليمي، والغش الممأسس والتلاعب المتقدم بالنتائج والعملية التعليمية برمتها! وهذه الحالة لا يمكن وصفها بغير "الاتجار بالبشر".
وفي ظل عجز المدارس الحكومية عن استيعاب التلاميذ، أصبح اللجوء إلى المدارس الخاصة إجباريا؛ إذ لم يعد من خيار أمام المواطنين سوى أن يرسلوا أبناءهم إلى المدارس الخاصة، فلم تعد هذه حالة تحد أو منافسة للتعليم الحكومي، ولكنها استثمارات قائمة في واقع الحال على امتيازات واحتكارات تشكلت بفعل القوانين والأنظمة التعليمية.
وإذا كانت وزارة التربية والتعليم غير قادرة على استيعاب التلاميذ في مدارسها، فليس أقل من السماح بالتعليم المنزلي. ذلك أن دفع المواطنين إلى المدارس الخاصة ضد إرادتهم وقدراتهم لم يكن سوى امتيازات لأصحاب المدارس. ماذا يمكن تسمية إجبار المواطنين أو دفعهم إلى المدارس الخاصة ضد إرادتهم ورغباتهم وقدراتهم المالية غير أنه "اتجار بالبشر"؟
وبسبب تحول السوق التعليمية إلى حالة إذعان، لم تعد معظم المدارس الخاصة تجد ضرورة لتحسين التعليم، ولا حتى الالتزام بقوانين العمل وتقاليده؛ فلا يحظى التلاميذ بتعليم مناسب، ولا يتمتع المعلمون والعاملون في كثير من هذه المدارس بظروف عمل لائقة وقانونية. والقانون يسهل ذلك، ويمكّن فئة من الناس من التحكم بالمواطنين وإجبارهم على الإذعان!