التعليم والهدف الاجتماعي.. هل نملك منظورا؟!

قبل مائة عام، تقريبا، وضع المخططون الأردنيون الأوائل أهدافا مرحلية عديدة في طريقهم لبناء البلد، واستعانوا بأدوات لتحقيق هذا الهدف، كان التعليم واحدا من أهمها، معولين عليه في بناء نخبة متعلمة تستطيع أن تؤسس لعملية نهضة شاملة في مختلف المجالات.اضافة اعلان
في تلك المرحلة المبكرة، وعلى امتداد عقود طويلة، كان التعليم المدرسي متاحا للجميع، خصوصا في سنوات البناء التي امتدت منذ مطلع الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات. كان عقل الدولة الأردنية يؤسس لمشروع تعليمي شامل يؤثر في بنية المجتمعات لا تمنح التعليم أي أولوية في ظل مجتمعات رعوية، وينقلها إلى مجتمعات حديثة تحاول أن تضع قدمها على أول طريق العلم وإنجازاته.
في ظل الوضع السابق، كان لا بد للدولة من تسويق التعليم بطرق جاذبة، خصوصا في ظل حاجة الأسر لأبنائها كأيد عاملة في الزراعة والرعي. سوّقت الدولة التعليم كمرادف للتقدم الاجتماعي والازدهار والمدنية، ورغّبت الأهالي بإرسال أبنائهم إلى المدارس، ومنحت وجبات وكتبا وأدوات قرطاسية مجانية للطلبة الذين يلتحقون بمدارسها، كما سنّت التشريعات والقوانين التي تحمي مجانية التعليم، وأخرى تفرضه إلزاميا، خصوصا التعليم الأساسي، وترتب عقوبات على من لا يلتزم بتلك القوانين.
سياسات كثيرة اتخذها البناة الأوائل، ساهمت في أن يصبح التعليم أحد أهم الوجهات المفضلة للأردني، وبعد سنوات قليلة فقط، أصبح المواطنون يتسابقون على إرسال أبنائهم إلى المدارس والجامعات، حتى لو اضطروا إلى بيع أراضيهم وصرف مدخراتهم.
التوجه الصارم نحو التعليم لم يكن الأمر الوحيد الذي ظهر جليا لدى الأردني كثقافة مستجدة، بل كانت هناك تطورات طرأت على المجتمع نفسه الذي أصبح أكثر وعيا وثقافة، خصوصا بقضاياه الأساسية، فالتعليم كان مرادفا للوعي، لذلك كان الطلبة في طليعة المجتمع، ومعبرين عن آماله وتطلعاته ومخاوفه. كانوا متعلمين مثقفين، ولم يكونوا مجرد قارئين أو حملة شهادات، فاشتبكوا مع جميع قضايا البلد والمنطقة، وهو اشتباك إيجابي استطاع تعميم تلك القضايا وآثارها على المجتمع بأكمله.
مع منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بدأ التعليم يفقد قوته، والأهداف الاجتماعية التي وضعها المخططون الأوائل بدأت تفقد جوهرها التخطيطي القائم في الأساس على نقل المجتمع من حالته الراكدة إلى حالة أكثر وعيا وتطورا، وبدلا من ذلك أصبح التعليم مرحلة لا بد من تخطيها، ولكن ليس بالضرورة أن تصبح مصيرية في بناء الفرد، بل هي مصيرية فقط في امتلاك الشهادة، سواء الثانوية العامة أو الجامعية. ومع سياسات قبول «عرجاء» في الجامعات الرسمية، ومع تراخي الإجراءات الصارمة التي اتبعتها الجامعات، وصل إلى حرم تلك الجامعات طلبة غير أكفياء، كما إن التراخي قاد إلى مخرجات لا تؤسس لأي نخب من الممكن أن تنشأ، وأن تقود عملية تحول أخرى نحو التقدم المطلوب في المستقبل، أو أن تكون فاعلة في قضايا الإصلاح على مختلف الصعد.
هذه أزمة حقيقية، تظهر تماما بأننا فقدنا الهدف الاجتماعي للتعليم الذي كان في السابق قادرا على التأسيس لعملية التحول الإيجابي. هذه الأزمة ينبغي أن نتنبه لها تماما، وأن نتداعى لمؤتمر وطني شامل تشارك فيه الأطراف المعنية جميعها، لصوغ أهداف اجتماعية جديدة للتعليم في بلدنا، ضمن رؤية وطنية تكون قادرة على قراءة المستقبل ومتطلباته. وأن نطوع المناهج والأساليب لتحقيق تلك الأهداف. إن لم نفعل، فسوف يسير التعليم لدينا في حلقة مفرغة، بحيث تظل مدارسنا وجامعاتنا تخرج طلبة بلا مواهب ولا مهارات ولا تأثير على المجتمع، وكأنما المطلوب، فقط، محو أمية الأجيال!!