"التعليم" ينجح بتخفيض العنف الأسري.. ويفشل في رفع نسب التبليغ

نسرين قاقيش

عمان - تشير بيانات مسح أجرته الحكومة على مستوى المملكة، وظهرت نتائجه مؤخرا، إلى تناقضٍ محيّر: النساء الجامعيات المتزوجات من رجالٍ متعلمين، أقل عرضةً للعنف الجسدي. لكن احتمال أن لا يبلغن عن تعرضهن للعنف يماثل تقريباً احتمال عدم تبليغ النساء الأقل تعليماً عن تعرضهن للعنف الجسدي.

اضافة اعلان

تستند هذه النتائج إلى "مسح السكان والصحة في الأردن 2017-2018" الذي أعدته دائرة الإحصاءات العامة. ولغايات المسح أجرى الباحثون مقابلات مع نساءٍ متزوجات أو سبق لهن الزواج ممن تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عاماً ويُقمن في الأردن، وذلك من خلال اختيار عينة عشوائية من الأسر في كل منطقة من مناطق المملكة. وبلغ عدد النساء اللواتي جرى مقابلتهن 6852 سيدة، وهي عينّة ممثِّلة على المستوى الوطني.

وقد عرف التقرير العنف الجسدي للنساء اللواتي تم استبيانهن بتعرضهن من قبل أزواجهن بالدفع أو الهز أو رمي شيء، أو الصفع، أو لي الذراع أو شد الشعر، أو اللكم بقبضة اليد أو الركل، السحب، أو الضرب بقوة، أو محاولة الخنق أو الحرق عن قصد، أو التهديد أو المهاجمة بسكين أو مسدس أو أي سلاح اخر.

ووفقاً للمسح، تعرضت امرأة من كل 5 نساء متزوجات أو سبق لهن الزواج في الأردن لعنف جسدي منذ سن الخامسة عشرة، وتعرّضت امرأة من كل 7 نساء متزوجات أو سبق لهن الزواج لعنفٍ جسدي خلال الأشهر الـ12 الماضية التي سبقت المسح.

نسبة قليلة جدا من النساء المتزوجات أو سبق لهن الزواج اللواتي تعرّضن للعنف في الأردن، سعت للحصول على المساعدة و إخبار أي شخص عما تعرّضن له. أكثر من 7 نساء معنّفات من كل 10 نساء متزوجات، يخترن الصمت التام بدلاً من طلب المساعدة من جهات مختلفة تشمل أفراد العائلة أو أفراد عائلة الزوج أو الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران أو أطباء أو محامين أو الشرطة.

المتعلمات أقل عرضةً للعنف الجسدي الأسري

احتمالية تعرض النساء المتزوجات أو اللواتي سبق لهن الزواج غير المتعلمات للعنف الجسدي الاسري بلغت الضعف مقارنة بالنساء الحاصلات على تعليم عالٍ. ووفقاً لبيانات المسح في 2018، وُجد أنه كلما كان مستوى تعليم المرأة المتزوجة أعلى، تنخفض نسبة احتمال تعرضها للعنف الجسدي.

كانت نسب السيدات المتزوجات اللاتي تعرضن لعنفٍ جسدي أسري مرة واحدة على الأقل في السنة الأخيرة التي سبقت الاستطلاع، على النحو التالي: 4 من كل 20 امرأة غير متعلمات أو وصلن للتعليم الإعدادي فقط، 3 من أصل 20 امرأة حاصلات على تعليم ابتدائي، وامرأتان من 20 امرأة وصلن لمراحل التعليم العالي.

المتعلمون أقل إساءة إلى زوجاتهم

احتمالية تعرض السيدات المتزوجات أو اللواتي سبقن لهن الزواج للعنف ليست مقرونة بمستوى التعليم الذي حصلت عليه فحسب، بل يقترن أيضاً بالمستوى التعليمي للزوج أيضاً، فقد بين المسح وجود ارتباط أقوى بين مستويات تعليم الأزواج وممارسة العنف الأسري.

وكانت النساء الأقل تعرّضاً للعنف هنّ المتزوجات من رجال حاصلين على تعليمٍ أعلى؛ فخلال السنة التي سبقت المسح، وجد أن نسب التعرض للعنف الجسدي على النحو: سيدتان من 20 متزوجات من رجال حاصلين على تعليم عالٍ، و3 سيدات من 20 متزوجات من رجال حاصلين على تعليم إعدادي، و 4 من 20 متزوجات من رجال حاصلين على تعليم ابتدائي، و4 من 20 متزوجات من رجال غير متعلمين.

في مقابلة أجريت مع هيلينا صايغ، مستشارة إرشادية بخبرة تزيد عن 28 عاماً، تحدثت فيها عن كيفية تطور وتناقل مثل هذه العادات في المجتمع، أوضحت "بشكلٍ عام، أن 70% من تصرفاتنا المتكررة تنبع من بيئتنا، خصوصاً ما نتعلمه خلال السنوات السبع الأولى من حياتنا".

وفسّرت سبب انتقال العنف بين الأجيال: "للبشر خلايا عصبية عاكسة mirror neurons في أدمغتهم، وهذه الخلايا تستخدم لتقليد السلوكيات التي شهدناها خلال طفولتنا بما في ذلك سلوكيات العنف". وأضافت أن الأطفال عندما ينشؤون في بيئة مضطربة قد يفتقرون لمهارات معيّنة كمهارات التواصل والذكاء العاطفي ومهارات إدارة الغضب واستراتيجيات المواجهة، لذا فقد يتحولون إلى أشخاص بالغين مسيئين متمسكين بالسلوكيات التي تربوا عليها لأنهم يعتمدون على ما لديهم من ممارسات وسلوكيات يشعرون بأنها طبيعية ومألوفة.

ولم توفر البيانات دليلاً لتحديد تأثير البيئة التي تربى بها الرجال على سلوكياتهم مع زوجاتهم. ما إذا كان الرجال الذين يضربون زوجاتهم قد تربّوا في أسرٍ كان فيها آباؤهم يضربون أمهاتهم. أما السيدات التي شملهن المسح وتعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي الزوجي فقد نشات 3 سيدات من أصل 5 في أسر كان فيها الأب يضرب الأم. أما بالنسبة لمن تعرضن للعنف الجسدي فقط فقد نشأت سيدتان من اصل 5 في أسر كان فيها الأب يضرب الأم.

نمط الحياة لا يزيد خطر تعرض النساء للتعنيف الجسدي

تشير الردود على أسئلة المسح إلى عدم وجود صلة قوية بين أعمار النساء أو غناهنّ أو جنسياتهن أو ما إذا كنّ يعشن في مناطق ريفية أو حضرية أو ما اذا كن عاملات ام لا أو عدد أطفالهن وغيرها من عوامل وبين احتمال أن يكنّ تعرضن للعنف الجسدي على أيدي أزواجهن في العام الماضي.

في المسح، تمّ تصنيف النساء إلى خمس مجموعات حسب دخل الأسرة. ولم يظهر أن الثروة كانت عاملاً لتوقع ما إذا كانت المرأة ستتعرض للعنف الجسدي. لكن بشكل عام تبين أن أعلى معدلات للتعنيف الجسدي بين النساء كانت في الفئتين الأفقر بينما كان أقل معدل للتعنيف من فئات النساء الأكثر غنى، أما احتمالات تعرض النساء اللاتي ليس لديهن أطفال للعنف فهي قريبة من احتمالات تعرض النساء اللاتي لديهن أطفال للعنف.

وعلى الرغم من أن التعليم يلعب دوراً كبيراً في الحد من العنف الجسدي، وُجد أن محافظة البلقاء تسجّل أعلى مستويات من التعليم ومن العنف الجسدي معاً.

وسجلت البلقاء ثاني أعلى معدلات من الأشخاص الحاصلين على تعليم ثانوي في المملكة، وكذلك سجّلت فيها أعلى معدلات عنف أسري في الأردن، حيث تتعرض امرأة من كل 4 نساء متزوجات أو سبق لهن الزواج للعنف في البلقاء.

هل التعليم كافٍ للتغلب على العنف الأسري؟

حسب الدراسة المبنية على نتائج المسح السكاني ذاته، التعليم له تأثير في الحد من العنف الجسدي تجاه المرأة ولكن ليس له التأثير ذاته في زيادة نسب الإبلاغ عن العنف أو طلب المساعدة أو وقف التكتم عنه، فلم تظهر نتائج دراسة بيانات الاستطلاع أي تأثير إيجابي واضح على طلب المساعدة أيا كانت العوامل الاجتماعية التي تنتمي لها النساء المشمولات في المسح، فالمسح السكاني كان مبني على استطلاعات تم توزيعها على النساء بين عمر 15 و 49 من المتزوجات أو من سبق لهن الزواج، التي صنفت النساء حسب عدة عوامل اجتماعية كمكان السكن (حضري أو ريفي) والعمر والمحافظة والجنسية وعدد الأطفال والحالة الاجتماعية والاقتصادية وان كانت المرأة عاملة أم لا، بالإضافة إلى درجة التعليم الذي حصلن عليها. وذلك بغاية دراسة العوامل المختلفة التي تنتمي لها النساء وتحديد أثرها على العنف الجسدي والإفصاح أو الإبلاغ عنه وطلب المساعدة.

طلب المساعدة حسب المسح شملت عدة مصادر وهي: أفراد العائلة أو أفراد عائلة الزوج أو الأصدقاء أو الجيران أو أطباء أو محامين أو الشرطة أو منظمات العمل الاجتماعي. أظهر المسح أن ثلثا ضحايا العنف الجسدي أو الجنسي اخترن الصمت التام؛ فلم يخبرن أي أحداً عن ذلك ولم يطلبن المساعدة. أما النسبة القليلة من النساء اللواتي طلبن المساعدة، فمقابل كل 40 امرأة طلبت المساعدة من عائلتها هناك امرأة واحدة فقط أبلغت الشرطة. لم يسأل المسح السيدات عن الأسباب التي دفعتهم للتكتم على تعرضهن للعنف.

عوائق خفية تحول دون الإبلاغ عن العنف

في مقابلة أجريت مع سيرين وليد البيطار، التي عملت في تنفيذ برامج لحماية المرأة من العنف لأكثر من ١٤ عاماً، ذكرت أنه وبناءً على خبرتها، يوجد عوامل عديدة تمنع المرأة الأردنية من الإبلاغ لجهات رسمية؛ "تلعب الطبيعة العشائرية لمجتمعنا وبنيته دوراً كبيراً في عملية طلب المساعدة، فقد تطلب العديد من النساء المساعدة من أسرهن المباشرة أو من شيخ العشيرة (...) زواج الاقارب منتشر أيضاً، لذا إن أبلغت المرأة عن زوجها، الذي قد يكون ابن عمها مثلاً، قد تصعّد الأمور بطريقةٍ غير مرغوب بها، إذ ستسبب الكثير من المشاكل العائلية، لذا يفضل الكثيرون التصرف وحل النزاعات بطريقة عائلية دون الإبلاغ عنها.”

بالتوازي مع الفترة التي أقيم بها المسح، أقر البرلمان الأردني قانون الحماية من العنف الأسري في نيسان 2017. ألزم القانون من جميع مُقدمي الخدمات الصحية والتعليمية الإبلاغ عن العنف الأسري بموافقة المتضرر إن كان الفعل المُرتكب جُنحة. يفرض القانون على إدارة حماية الأسرة التابعة لمديرية الأمن العام التعامل مع كل شكاوى العنف المنزلي الواردة إليها وتوثيقها. إلا أن العديد من الانتقادات طالت القانون ومنها أن القانون لا يفرض على إدارة حماية الأسرة تحويل الحالة للقضاء إلا إن كانت جناية، وأن المرأة المتضررة هي التي يتم إبعادها عن مكان النزاع بدلا من إبعاد الجاني بحسب تعليق اتحاد المرأة الأردنية. إلا أنه للآن لا يوجد دراسات على أثر التعديل على قانون حماية الأسرة على الإبلاغ وطلب المساعدة من قبل المرأة المُعنفة.

حاليا في الأردن هناك خمسة دور رعاية رئيسية تابعة لوزارة التنمية للنساء المعرضة حياتهن للخطر. فدار الوفاق "عمان" تستقبل النساء الناجيات من العنف، ودار الوفاق "إربد" ودار الكرامة تستقبلان النساء الناجيات من جرائم الاتجار بالبشر، ودار أمكنة تستقبل النساء المهددة حياتهن بالخطر، اما دار آمنة والتي بوشر العمل فيها منذ فترة ليست بطويلة في يوليو من عام 2018 فتستقبل النساء المهددة حياتهن بالخطر إثر جرائم الشرف. وأنشئت هذه الدار لإنهاء الاحتجاز الوقائي الذي بموجبه تتم احالة النساء المعرضة حياتهن للخطر إلى السجون حفاظا على حياتهن، ومن المقرر أن تستقبل جميع الحالات بالتدريج.

التأثير طويل الأمد للعنف الأسري

يرتبط العنف الأسري عادةً بأشكال متنوعة أخرى من عدم المساواة بين الجنسين بالنسبة للمرأة. ووفقاً لوثيقة أعدتها كل من منظمة الصحة العالمية ومنظمة الصحة للدول الأمريكية كجزء من سلسلة "فهم العنف ضد المرأة والتصدي له" ونشرت عام 2012، بالاستناد إلى دراسات أخرى، فإن النساء اللاتي لديهن تاريخ من سوء المعاملة يكنّ أكثر عرضةً للإصابة بمشاكل صحية مزمنة كالصداع وآلام الحوض المزمنة وآلام الظهر والبطن، ومتلازمة القولون العصبي، واضطرابات الجهاز الهضمي.

كما يرتبط خطر إصابة النساء بمشكلات عقلية وذهنية بالإيذاء الجسدي، كالاكتئاب ومحاولات الانتحار واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات التوتر والقلق، واضطرابات النوم والأكل، والاضطرابات النفسية الجسدية أي ما تعرف بالأمراض" السيكوسوماتية".

توصل البحث أيضاً إلى أن العواقب الصحية قد تكون حادّة وفورية أو طويلة الأمد ومزمنة، وقد تستمر حتى ما بعد توقف الاعتداء.