التغريبة الفلسطينية الجديدة

هذه المرة ليست نزوحا ولا مخيمات ولا مذابح ولا شتات، إنها تغريبة سائرة بتؤدة مدروسة إلى منطقة الذاكرة الجمعية، تزيح حجرا حجرا من ذاكرة الصورة، وتستوطن محلها بهدوء ماكر قطع التركيب المبعثرة، لترسم خريطة وجدانية جديدة للمزرعة السعيدة! قبل هذا كله، كان الكيان الصهيوني يحارب "تقريبا" وحيدا منزوعا من الثقة والقبول، صرحا كان في الماضي قويا متينا صارما، بنته أيادي أجدادنا وأبائنا ومعلمينا وشعرائنا وفنانينا من شتى البلاد، لا تعبر نسمة هواء إلا وسميت وقتها خائنة وعميلة. أما اليوم، فقطع التركيب المشوهة أضحت لعبة يحلو للبعض أن يجازف بتربيته وتعليمه وإرثه القومي والوطني، كي يشارك في تجميعها، طمعا في الفوز بجائزة ترضية، تمنحه شرف الاختلاف. إنها تغريبة فلسطينية من نوع آخر، تلعب فيه أداة إعلامية دامية خبيثة وعميقة، تجعل من القضايا التي كانت عادلة في يوم بعيد، أمرا قابلا للتفاوض والمساومة، ضمن منظومة الانقلاب على كل ما هو إرث ديني وأخلاقي وأدبي واجتماعي، ليضاف إلى العلبة اللعبة، الإرث الوطني بالمرة! فلا بأس إذن أن يتحول الوطن إلى مجموعة أغنيات وموامويل في السهرات، ورقصات فلكورية ومنتجات غذائية وأفلام سنيمائية وأهداف كروية وصيحات حناجر استعراضية، وبالطبع الى حملات إلكترونية وحروب افتراضية ومعارض صور وعروض أزياء ودموع مسفوحة على محراب المسابقات الفنية. لا بأس من ذلك أبدا، طالما المنتجات استهلاكية تماما، تنتهي وظيفتها وتأثيراتها، حين تغلق الشاشات وترمى العلب الفارغة على أبواب البيوت. تغريبة فلسطينية لا يشعر أصحابها بالغربة أبدا، داخل دائرة التعاطف والإحاطة من قبل المضيفين الجدد، في عالم الهواء. لا يعاني مواطنوها مطلقا من احتمالات التهجير والتسفير فالأرض من تحتهم ثابتة، والسماء لا حدود لها، والأحلام وإن كانت غير قابلة للتحقق، إنما هي بذاتها قد تغيرت وتغيرت كثيرا. الكارثة في هذه التغريبة انسيابية نظرية "ما لو جربنا"، بين جنبات الحديث، وخلال المناقشات الودية كانت أو العدائية. المهم أن الافتراض أصبح كائنا حيا يجلس على أطراف المقاعد، ويتسلل بين حروف الكتابة، وكأنه أمر واقع علينا أن نمتثل له، كمتلقين للنصائح والأفكار والفرضيات، التي تستند على فكرة أن القبول بالأمر المفروض هو تكتيك ذكي للمضي قدما نحو الهدف النبيل، وأن الشوك في الطريق إلى الوطن، ليس شوكا بالمعنى القديم، بل هو صفقات وفرص ومناورات وكسب للوقت والجهد، من أجل الرزق والتعلم وحرية الحركة! أعلم بأن المقال متشائم من الوضع الحالي، رغم أصوات طيبة وصارمة وحقيقية ترفض المساومة، تقاتل وحدها طواحين الهواء والهواء نفسه، مشرعة صدور أصحابها لكل الاحتمالات الصعبة. لكن هذا لا ينفي أن ننتبه لما يحدث معنا وبنا ولنا من دون أن نشعر، بفعل الاعتياد والملل والاتكال على آخرين، يجلبون لنا حقوقنا ونحن جالسون، كما نفعل مع أشيائنا وتفاصيلنا ويومياتنا. الكسل، هو التغريبة الفلسطينية الجديدة، بفارق بسيط؛ أن من سيعيشها ليسوا الفلسطينيين وحدهم، بل مواطنون من جنسيات أخرى.اضافة اعلان