التفكير الطويل أو البطيء وسوء الفهم

تتعامل المدرسة النمطية مع الأطفال/ التلاميذ، وكأنهم نسخٌ كربونية، عن بعضهم البعض، فتفرض عليهم البرنامج نفسه، وتعلمهم بالأساليب نفسها، وتختبرهم بالامتحانات نفسها... وكأنه لا أهمية لأي واحد منهم، ما داموا في نظرها متماثلين، مع أن حاجاتهم واهتماماتهم وطرائق تعلمهم... متباينة. أي أن كل واحد منهم فريد. وبذلك تمنع المدرسة نفسها بروز الإبداع والابتكار عندهم. ومن الكوارث، التي تصيب كثيراً من الأطفال/ التلاميذ، فرض المدرسة عليهم الوقت نفسه المفروض على الجميع، واعتبار من لا يسلّم ورقة الامتحان في نهاية الوقت المقرر غبياً أو بليداً، يوصم تفكيره بالبطيء.اضافة اعلان
لقد بينت البحوث وسير الحياة الذاتية لكثيرٍ من المبدعين والمفكرين والفلاسفة والمنظرين تميزهم بالتفكير الطويل أو البطيء، وأنهم يحتاجون إلى وقت أطول من غيرهم ليجيبوا عن الأسئلة أو ليحلوا المشكلات أو ليفسروا الظواهر والأحداث.
ويأتي على رأس هؤلاء ثوماس جيفرسون أحد واضعي الدستور الأميركي، وشارل داروين صاحب نظرية التطور، وآينشتاين صاحب نظرية النسبية الذين يمتازون جميعاً بما يلي:
يحددون المشكلات بدقة. يستمتعون بصحبة أنفسهم. لديهم ميل نحو اللعب والنكتة. شديدو التركيز، ويتتلمذون على أيدي أصحاب تفكير طويل.
لكن تفضيل المدرسة للتفكير السريع، جعل أصحاب هذا التفكير يبدون أغبياء، فيرسبون أو يُرسّبون أو يتسربون، مما يحرم العالم من عطائهم. هنا يجب أن لا نخلط بين التفكير السريع، الذي يتحدث عنه حامل جائزة نوبل دانيال كاهنمان، كما ورد في كتابه الأكثر مبيعاً: (Thinking Fast And Slow,2011)، لأنه يتحدث عن وجود نمطين للتفكير عند الإنسان: أحدهما يومي سريع (System 1) والاخر طويل أو بطيء (System 2) وهو الذي ينشئ الأفكار وينظم الخطوات ويبرهن ويفسر. الأول يعمل أوتوماتيكياً بسرعة، وبجهد قليل، وقلما يخضع للسيطرة. أما التفكير الطويل أو البطيء فبالعكس، أي انه يقلّب الأمور الصعبة أو المعقدة طويلاً، وبخاصة ذات العلاقة بالخبرات الذاتية والاختيار.
إن وظيفة المدرسة هي تنمية التفكير الطويل أو البطيء، لا اعتباره عوقا، ولا سحب ورقة الإجابة من الطفل صاحب هذا التفكير عنوة وقرفاً: إنتهى الوقت يا غبي.
ومما يزيد الطين بلة في المدرسة العدد الكبير من التلاميذ فيها، حيث يجد الطفل نفسه ضائعاً أو مجهولا بحشد كبير، فيلجأ إلى العبث واحياناً إلى العنف لجلب الانتباه إليه. وقد اكتشفت أميركا ذلك متأخرة، عندما وجدت ان المدرسة الفضلى عدداً هي التي لا يزيد عدد تلاميذها عن أربعماية.
توحي الامتحانات العامة (المصيرية) للتلاميذ ان الأجوبة أو الحقيقة مطلقة، ما داموا يُرفّعون او يرسبّون في ضوئها، أو يتسربون بسببها، وما داموا يجبرون على التقيد بالوقت المحدد للامتحان، كما في (SAT) وأمثاله. ولعل هذا المناخ الإمتحاني هو أحد مصادر العنف لإغلاقه الباب على الأنشطة والإبداع والابتكار والتفكير الطويل، أي التفكير خارج الصندوق، الذي يعتمد عليه الإقتصاد المعاصر، والذي لا تستطيع الامتحانات العامة قياسه.
في خطابها، اثناء قبول جائزة نوبل في الشعر، قالت الشاعرة وايزلاوا زيمبوسكا: إنها تستطيع أن تعرف فيما اذا كان المجتمع أو المؤسسة تموت او لا، من طبيعة الخطاب السائد فيهما. يكفي النظر في الظرف الزماني (Adverb) المسيطر على اللغة، مثل: ابداً او دائماً او مطلقاً لتعرف ذلك، وانها كلما سيطرت على مجتمع او مؤسسة كانت في حالة موات. وقد استدلت على ذلك من مراجعة اللغة المستبدة، او المطلقات فيها، التي تستخدمها النظم الديكتاتورية والشمولية للسيطرة على شعوبها.