التكنولوجيا ومستقبل السياسة والاجتماع

أحتاج إلى تكرار القول بأن هذه المقالة كما مقالة الأمس والغد ليست تكنولوجية بمعنى الوصف والتفسير العلمي والتقني لما ينتجه عالم اليوم في ظل الثورة الصناعية الرابعة، لكنها محاولة للتفكر في التداعيات المعقدة مستقبليا على حياة ومصير وعلاقات الأفراد والأمم، هي أفكار تندرج في علم اجتماع الآلة إن صح هذا التصنيف، لقد ظل الجدل الثقافي والإعلامي حول التطورات التكنولوجية خارج مجالها العلمي البحت يغلب عليه السجال التنظيمي والقيمي، وهذا آخر ما يجب التفكير فيه، أو هو محصلة التفاعل السياسي والاجتماعي والثقافي مع تداعيات وتأثير التكنولوجيا، وليس البداية، فالتنظيم القانوني والأخلاقي للتكنولوجيا يتعلق بحدود ومحددات استخدامها وليس إنتاجها أو حظرها. هناك تطبيقات ونتائج تكنولوجية جديدة بدأت تفعل وتؤثر في حياتنا على نحو مختلف عن الأجيال السابقة، وتحتاج إلى منظومة مؤسسية وتشريعية جديدة، فارتفاع معدلات العمر، ينشئ أنظمة جديدة للعناية بكبار السن وطب الشيخوخة كما أنظمة العمل والتقاعد والتأمين الصحي، وأدوية تغيير السلوك تغير على نحو كبير في اتجاهات الصحة النفسية والعصبية، ومؤكد بالطبع أن أنظمة الهندسة الوراثية سيكون لها تأثيرات كبرى في الأجيال القادمة، كما تغير التكنولوجيا في طبيعة واتجاهات الأعمال والمهن وتنظيمهما. لكن تنشأ أسئلة كثيرة قد لا يعرف أحد إجابة للكثير عنها عندما يبدأ استخدام أدوية تغيير السلوك والعلاج الدوائي للأمراض العصبية والنفسية، ذلك أنها ببساطة تمتد إلى أنماط وأنواع كثيرة من السلوكيات غير المرغوبة والمسؤولية عنها، وتؤثر جوهريا في عمل واتجاهات التعليم والطب والخدمة الاجتماعية. إلى أين سيصل العمر المتوقع أو الممكن للإنسان؟ ما يبدو عليه الحال اليوم أنه بفعل التحسن في الغذاء والسلوك الصحي كالنظافة وتطور الدواء والطب أن معدلات الأعمار تزيد، وربما تتحسن ظروف الشيخوخة، بمعنى قدرة الطب والسلوك الصحي على استمرار حيوية الإنسان وقدرته العامة بدون تراجع مع تقدم السن، .. ونعلم بالطبع أن الخلود هو حلم الإنسان الأزلي! والذي لن يكف عن البحث عنه والعمل على الحصول عليه، وما يبدو في الأفق أن العلاج الجيني وبالخلايا الجذعية قد يجنب الإنسان العجز مادام على قيد الحياة، وذلك بتجديد الأجزاء التالفة من جسمه. هل سيكون ممكنا تصميم الإنسان والاختيار الجيني للمواليد والتأثير في التركيب الوراثي للأبناء، ومعالجة العيوب الخلقية وإصلاحها؟ يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه مستقبلنا بعد البشري: ستكون الجائزة الكبرى للتقنية الوراثية الحديثة هي "طفل حسب الطلب" أي أن اختصاصيي الوراثة عندما يتمكنون من تحديد الجين الخاص بصفة الذكاء والطول ولون الشعر والعدوانية أو احترام الذات يمكنهم أن يستخدموا هذه المعرفة لصنع نسخة أفضل من الطفل. وبعيدا عن الجدل في هذا المجال وفرصه التقنية والأخلاقية والقانونية فإن ما تحقق من تطور في التقنية الوراثية وعلم الأدوية العصبية وزيادة سنوات الحياة ستؤثر كثيرا على سياسات القرن الحادي والعشرين. ويجب على الدول تنظيم التقنية وتطويرها واستخدامها سياسيا، وإنشاء مؤسسات تقوم بالتمييز بين التطورات التقنية التي تعزز الازدهار البشري، وبين تلك التطورات التي تمثل تهديدا للكرامة والرفاهية الإنسانية. ولكن هل يمكننا التحكم في التقنية؟ الطريقة الوحيدة للتحكم في انتشار التقنية هي إيجاد اتفاقيات دولية بشأن القواعد المقيدة للتقنية، وفي غياب مثل هذه الاتفاقيات الدولية فإن أية أمة تختار تنظيم نفسها ستمنح ببساطة الفرصة للدول الأخرى لتتفوق عليها. يفترض كثيرون أن عالم ما بعد البشرية سيكون أفضل في الحرية والمساواة والرخاء والرعاية والتعاطف والرفاه والصحة والذكاء، ولكنه أيضا قد يزيد الصراعات الاجتماعية. إن الحرية الحقيقية تعني حرية المجتمعات السياسية في حماية أغلى قيمها، وتلك الحرية التي نحتاج إلى ممارستها فيما يتعلق بثورة التقنية الحيوية اليوم.اضافة اعلان