التنمر.. كفانا صمتا

غيث الطراونة

عليك أن تأخذ ثلاث خطوات للخلف، وتصمت عندما يمارس عليك أحد أفراد «الأقلية الصارخة» التنمر لأنك قررت أن تعبر بإيجابية عن قضية وطنية تخالف فيها إشاعة أطلقها فلان أو فلانة أو هجوما على منجز وطني، مهما بلغ حجمه أو ترفض حالة الاستقطاب تجاه قضية معينة سواء كانت سياسية أو اجتماعية.

اضافة اعلان

والمقصود في مفهوم الأقليّة الصارخة الذي طورته الدراسات الإعلامية الجديدة، أنه ظاهرة عالمية تمارس على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل مجموعة صغيرة من الناشطين والمؤثرين، من خلال محاولة الإيهام بأن مواقفهم تعكس الرأي العام، الأمر الذي يسهم في توليد حالة استقطاب سياسي أو اجتماعي خلف هذا الموقف أو ذاك.
نعم عليك أن تصمت وتحافظ على احتشامك عندما ينعتك أحدهم بأبشع الصفات، وينتزع منك حق التعبير بحرية لمجرد أنك خالفت وجهة نظره أو نفيت كذبة أطلقها أحدهم من غرفته والله أعلم من أين.

هذا الدخول المفاجئ هدفه الولوج إلى عالم التنمر الإلكتروني، بعد أن قادنا التطور إلى مفهوم الهوية الرقمية الناتجة عن دمج التكنولوجيا في حياتنا اليومية، كما قال الكاتب ليام هاكيت وهو المؤسس لمؤسسة «Ditch the Label»، وهي مؤسسة خيرية للمساواة ومكافحة التنمّر، في المملكة المتحدة.
ولست راغبا هنا في الدخول في التعريف العلمي للتنمر الإلكتروني وسلوك الذين يمارسون هذا الشكل من أشكال التعدي على حياتنا الخاصة ومواقفنا، وإنجازاتنا الوطنية، بقدر ما أرغب أن أشير إلى سلوك وردود أفعال من يتعرضون للتنمر، وهم كثر.
في بداية المقال أشرت إلى تراجع الكثير منا ليس عن مواقفه، بل عن الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي، والصمت على الإساءة التي نتعرض لها تحت بند (أعرض عن الجاهل السفيه).

ودعوني أن استخدم ما تعرض له تدشين رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة لإعادة تأهيل آبار حقل حمزة النفطي والتي رفعت كميات الإنتاج من 5 براميل نفط يومياً الى ما بين 1500 الى 2000 برميل يومياً، من حالة بشعة من التنمر والتهكم على منجز، صحيح أنه بسيط، لكنه يبقى منجزا يدفعنا للأمام.
وأنا على يقين أنه كما وصلني، وصل الآلاف من الأردنيين العشرات من الرسائل عبر واتساب لمنشورات مثيرة للسخرية ومضحكة للوهلة الأولى، غير أنها أيضا تطرح العديد من التساؤلات وفي مقدمتها، لماذا يريد البعض من أفراد هذه الاقلية الصارخة تحطيم كل شيء؟ لماذا يسخفون كل إنجاز مهما كبر أو صغر حجمه؟
يبدو أن القصة ليست «قنينة» النفط، بل المسألة (قلوب مليانة)، إذ يسعى بعض الأفراد إلى مصادرة الحق بالفخر… الحق بالفرح… الحق بالعمل، يسعون إلى زج الناس في تيارات الإحباط الممنهج، وقتل روح المبادرة والرغبة بالإنجاز.

نعم، إنهم يريدون من الناس أن يخوضوا معارك وهمية وهامشية ويريدون أن يشغلوهم في ردود الأفعال، ويسعون إلى حصرهم في مساحات ضيقة من التفكير، وعدم القدرة والتردد في عملية اتخاذ القرار، جزعا من التنمر الذي قد يمارس عليهم بمختلف مكوناتهم.
كل هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الدولة لا ترغب ولا ترحب بالنقد البناء، ولكن دون مغالاة وشخصنة، ودون اجتزاء يبحث عن نقاط سلبية ضعيفة هنا وهناك، ويهمل الصورة الشمولية، وما فيها من بريق الإنجاز.
ولا بد عند طرح هذا الموضوع من العودة إلى مقال جلالة الملك عبدالله الثاني العام 2018 والذي جاء بعنوان منصّات التواصل أم التناحر الاجتماعي؟ حينما قال «حين نتصفح منصات التواصل الاجتماعي نصطدم أحيانا بكمٍّ هائل من العدوانية، والتجريح، والكراهية، حتى تكاد تصبح هذه المنصات مكانا للذم والقدح، تعج بالتعليقات الجارحة والمعلومات المضللة، والتي تكاد أحياناً تخلو من الحياء أو لباقة التخاطب والكتابة، دون مسؤولية أخلاقية أو اجتماعية أو الالتزام بالقوانين التي وجدت لردع ومحاسبة كل مسيء».
أعتقد أن التنمر يجب أن يواجه بالقانون أولا، وهذا يقتضي ألا يتردد من يتعرض للتنمر في اللجوء للقضاء لمحاسبة أولئك الذين يمارسون الاستقواء في العالم الافتراضي ويقتحمون بالصراخ حياة الأفراد، رغم أن شخصياتهم في الواقع لا تشبه تلك الموجودة على وسائل التواصل الاجتماعي في كثير من الاحيان، وهذه مشكلة نفسية واجتماعية يطول الحديث عنها.

وعلى كل من يتعرض لهذا التنمر أن يواصل، ثانيا، حضوره الإيجابي الذي يرى النصف الممتلئ من الكأس، وينتقد الخلل إن وجد بمنطق الحريص على الوطن والمستند إلى الحقائق والقيم والمسؤولية.

ختاما، المطلوب ليس تجميل البشع ولا إخفاء الحقائق، بل ممارسة حضورنا على مواقع التواصل الاجتماعي بإيجابية المخلص للوطن الحريص على الانجاز الدال على مكامن الخلل لتصويبها، والمقترح للحلول المبنية على الفهم الدقيق للمشاكل.
إن كل استجابة خائفة تزيد تنمرهم قوة، كل تراجع يقدمهم خطوة، وكل صمت يرفع من صوتهم، ولو كانوا على حق لرفع الأردنيون القبعات لهم، ولكنهم ليسوا كذلك.