التهدئة بين الاستراتيجيات والأدوات

تدخل المنطقة مرحلة تهدئة على مختلف الجبهات، ولكن السؤال المهم هل هذه التهدئة إستراتيجية أم أداة؛ فمحصلة الإعلان الإسرائيلي السوري غير المشترك عودة الحرارة إلى مسار المفاوضات بين الطرفين برعاية تركية.

اضافة اعلان

والنتيجة السحرية لاجتماع الدوحة الذي أفضى بحل الأزمة اللبنانية المزمنة، وإعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في عيد المقاومة بما يرمز إليه من مضامين القوة عن انتمائه لولاية الفقيه أي النهج السياسي الإيراني، وإذا ما أضيف إلى ذلك النتائج المحتملة للجولة التي قام بها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر للمنطقة، محصلة كل هذه الأحداث تشير من منظور استراتيجي إلى تحولات بطيئة تجري على الأرض مفادها الأساسي المزيد من الإختراق لجبهة الممانعة، والمزيد من الإضعاف لدول الاعتدال العربي بقيادة السعودية.

في القراءة الإستراتيجية يجب التفريق بين الإستراتيجيات العليا أي الأهداف والمصالح البعيدة المدى وبين الأدوات التي تستخدم لإدارة الوصول إلى أهداف الإستراتيجية العليا، في الصراعات المزمنة والطويلة يضيع أحيانا الفرق وتصبح عملية حماية الأدوات والحفاظ على دورها تبدو وكأنها هي المصلحة العليا، وهذا فرق أساسي بين القراءة السياسية والقراءة الإستراتيجية للأحداث، فالقوى الفاعلة والأكثر قدرة على الحركة قد لا تعبر أحياناً عن  استراتيجيات قيادية، فلطالما كشفت الأحداث في نهاية الأمر بأن القوى الفاعلة  الأكثر قدرة على الظهور على مسرح السياسة ما هي في نهاية المطاف إلا مجرد أدوات.

الأحداث والتفاعلات السياسية التي شهدتها الأسابيع الماضية، تثبت أننا أمام شرق أوسط يمر في مرحلة انتقالية قد تمتد لشهور عديدة يتم خلالها توفير البيئة الملائمة لتطويع القوى الفاعلة أي أدوات إدارة الصراع التقليدي؛ وهنا المقصود بالدرجة الأولى حزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي؛ بمعنى تهدئة الجبهات وتطويعها.

التهدئة الجديدة، تعني أيضا  أن مرحلة الحصار على وشك الإنتهاء، وهو الحصار الممتد من فرض العقاب الجماعي على المجتمع الفلسطيني تحت ذريعة حصار حماس والجهاد الإسلامي وصولاً إلى العزلة السياسية الدولية والعربية المفروضة منذ سنوات على سورية، فلقد وصل إلى القناعة الإسرائيلية عدم جدوى الاستمرار في الحصار المفروض على المدن الفلسطينية في ضوء ترهل سياسي وضعف في رام الله لا يقوى على قيادة الحل أو حمايته، وهي الحقيقة التي وصلت إليها القناعة الأميركية حيال الحصار المفروض على دمشق، لا تعبر هذه التحولات عن قوة حقيقية لمحور دول الممانعة بقدر ما تعبر عن وصول هذه القوى بفعل الأحداث والضغوطات للقبول بصفقات الحد الأدنى من المطالب.

في هذا الوقت يتم التعامل مع الأدوات السياسية والقوى الفاعلة في المنطقة بمنطق التطويع وليس المحو، لن نتصور خيارات تدعو إلى محو حزب الله أو إخراج حماس والجهاد الإسلامي خارج الملعب الفلسطيني والإقليمي، بل أن المرحلة تشير إلى إعادة تأهيل هذه القوى سياسياً وتبني انخراطها الجدي في الخيارات الإقليمية، ولكن على الأرجح بدون غطاء إقليمي أو عربي حقيقي.

في إحدى القراءات؛ يستدعي الاختراق التركي لسورية الحوار حول مستقبل العلاقات السورية مع كل من حزب الله وإيران، وما مدى احتمالات إعادة تأهيل هذه العلاقات وليس تغييرها. وهنا يجب استعادة دلالات المناورات العسكرية الواسعة التي أجرتها إسرائيل على الحدود الشمالية قبيل زيارة كارتر للمنطقة؛ في الوقت الذي كان المطبخ السياسي التركي ينسج خيوط التحولات السياسية الأخيرة. وما هي الرسالة السياسية التي حملتها تلك المناورات.

في ضوء ذلك تفهم رسالة أمين عام حزب الله الأخيرة حول ولاية الفقيه، بما يتطلب تذكر المنطلقات والفروق بين النخبة السورية العلمانية الحاكمة في دمشق وخياراتها المصيرية، وبين النخبة الدينية التي تكوّن حزب الله وتديره وخياراتها المستقبلية، نحن أمام مسلسل من الاختراقات آخرها ولن يكون الأخير الإختراق السوري لعائلة الحريري والتقارب المحتمل على الخط التركي السعودي، بينما تبقى القراءة التقليدية للأوضاع من منظور الصراع الفرنسي الأميركي على سورية ولبنان حاضرة ويمكن الاستفادة منها.

مرحلة تهدئة الجبهات تعني من جهة أخرى المزيد من الفرز والوضوح بين الإستراتيجيات العليا وبين الأدوات السياسية والإستراتيجية، وتعني هجرة بطيئة للخطابات التي سادت على مدى سنوات، ينتظر أن جميع الفاعلين في المنطقة سوف يستثمرون زمن الهدوء المؤقت للتأهل للمرحلة القادمة، وهو التأهل المطلوب دوليا وإقليما، سوف نشهد مسلسلات أخرى من الاختراقات غير المتوقعة، لكن لن تموت قوة ما بالسكتة الدماغية وهي واقفة!

[email protected]